في الوقت الذي “تتهاوى” فيه البطاقة التمويلية على ألحان “دفّ” العجز عن تمويلها، شاحت الأنظار صوب “تمايل” السلة المالية. فـ”المتراقصة” الجديدة على حبال مكافحة فقر الموظفين، ستخطف الأضواء بعد سقوط “البطاقة”. بيد أن “قوامها” الثقيل لن يجذب لها التصفيق، بل سيهدد بسقوط “مسرح” الدولة بمن فيه.
موظفو الدولة الموعودون، كثلاثة أرباع الشعب اللبناني بالبطاقة التمويلية، لن يستأنفوا عملهم بشكل نظامي في حال لم يحصلوا على ما يسد رمق عائلاتهم ويوفر أبسط إحتياجاتهم. المعلمون والمعلمات خارج الصفوف حتى الآن. موظفو الادارة ومتعاقدوها مضربون، وهم لا يداومون سوى أيام قليلة في الأسبوع بهدف عدم سقوط المرفق العام. القوى العسكرية والأمنية تسجل أعلى نسبه فرار من الخدمة منذ نهاية الحرب اللبنانية. أساتذة الجامعة أصبحوا ينتظرون مساعدة الـ PCR للحصول على مليون ليرة إضافية شهرياً. القضاة الذين “يسيّجون” البلد بالعدالة، يتقاضون أقل من حارس على أبواب مؤسسة أجنبية. إنهيار الليرة حوّل مؤسسات الدولة الضامنة إلى شكلية حيث أصبح المريض يدفع أضعافاً مضاعفة ما تدفعه مؤسسات الحماية الاجتماعية.
هذا الواقع الذي يهدد بانهيار الهيكل فوق رؤوس الجميع “ستدعّمه” السلطة بمشروع قانون لتأمين سلفة مالية جديدة بمليارات الليرات. هذه السلفة ستوزع إما كزيادة في الرواتب، وإما كمنح مالية على غرار الموافقة الاستثنائية بقيمة 600 مليار ليرة، التي أعطيت على دفعتين لموظفي الدولة في حكومة تصريف الأعمال. وفي الحالتين ستتضمن بدل رفع النقل اليومي إلى رقم يتراوح بين 24 و64 ألف ليرة. وعليه ستكون الزيادات “أشبه برشوة إنتخابية، أكثر منها مساعدة اجتماعية”، بحسب الخبير الاقتصادي د. بيار الخوري. وعلى الرغم من معرفة السلطة أن واحدة من المشاكل الكبيرة تتمثل في تضخم أجور القطاع العام وتراجع انتاجيته فـ”هي ما زالت مصرة على نفخها أكثر”، من وجهة نظر خوري. و”السبب لا يتعلق بضمان استمرار العمل في الإدارة في حال وصلت البطاقة التمويلية إلى الحائط المسدود فحسب، إنما لأن جمهور المنظومة قابع في القطاع العام. فوجود بين 320 و350 ألف موظف بالاضافة إلى نحو 130 ألف متقاعد يضمنون مع عائلاتهم إعادة تجديد الولاء في حال إرضائهم. وعليه كلما اقتربنا من الانتخابات كلما تعاظمت الرشى”.
خوري الذي لا يجادل بأحقية موظفي القطاع العام تعزيز قدراتهم الشرائية، يسأل عن نصيب بقية اللبنانيين من غير الموظفين. خصوصاً أنه لا يوجد مصدر تمويل دائم للزيادة التي ستعطى على الرواتب والأجور. بل ستمول بالتضخم من جيوب بقية اللبنانيين”.
إذا كانت أبسط قواعد المحاسبة العامة تفترض أنه “لا نفقة دائمة من دون إيراد دائم”، فان حجة السلطة ستكون كالعادة، بتأخر برنامج الإصلاح وبانتظار الإمضاء مع صندوق النقد الدولي. ذلك مع العلم أن “واحد من شروط الصندوق سيكون رفض الاستمرار بسياسة الإنفاق الهائل على الموظفين واحترام قواعد وأصول الشراء العام”، يقول خوري، و”الإثنان من المستحيل للسلطة التقيد باصلاحهما؛ فالأول يمثل قاعدتها الانتخابية، والثاني يمثل شُركاءها من مجموعة المتعهدين”. وعليه فان رفع أجور موظفي القطاع العام سيكون من “مال غير موجود”. وحتى لو قيّد كدين يسدد من اعتمادات وزارة المال للأعوام القادمة فهو يبقى ديناً مؤجلاً ليس هناك من مصدر تمويل لإيفائه، خصوصاً مع تعذر البدء بالاصلاحات.
بالارقام تظهر موازنة “المواطن والمواطنة” للعام 2020، أن الإيرادات المتوقعة قدرت بـ13395 مليار ليرة، في حين أن تقدير الانفاق على بند الرواتب والأجور بلغ 9934 مليار ليرة. ما يعني أن الأجور وحدها تمتص 74 في المئة من الايرادات. والمشكلة برفعها مرة جديدة من دون إصلاح القطاع العام لا تتعلق بامكانية امتصاصها الايرادات الى حد 100 في المئة فحسب، إنما بأكثر من 100 في المئة بكثير نظراً للتراجع المحقق في الايرادات بسبب انخفاض النمو من جهة، وانهيار قيمة الليرة من الجهة الثانية. وما زلنا نتحدث بالارقام، فان ملخص الوضع المالي للأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام يظهر تراجع الايرادات بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020 بنسبة (0.3-) في المئة. حيث تراجعت الإيرادات لغاية نهاية آذار من 3,163 مليار ليرة إلى 3,153 بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2020. هذه النسبة وإن كانت صغيرة للفصل الأول من الحالي، فهي على الأكيد تدل على مستوى تراجعي في الايرادات. هذا من دون أن نأخذ في الاعتبار أن مجمل الايرادات المتوقعة لم تعد تساوي 800 مليون دولار على سعر صرف 17 ألف ليرة.
بعيداً من أن مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يفرض إستفادة جميع من في الوطن من المساعدة، وليس حصرها بفئة محددة مهما اشتدت حاجتها، فان الشرط الأول لأي زيادة في القطاع العام هو تحديد مصادر التمويل بدقة، وإلا فان النتيجة السلبية لن تنحصر بإفقار بقية المواطنين إنما بتراجع قدرتهم الشرائية بالتساوي مع عموم الموظفين والحكم على مستقبل البلد بالفقر المؤبد.
في ظل كل هذه المتغيرات يبقى أن افضل تمويل للقطاع العام هو الإصلاحات داخل مؤسساته، وتوجيه المستحقات لأصحابها.