ليست عاديّة أو موسميّة الضّغوط التي يعيشُها الشّعب اللبناني منذ سنتين ولا يزال، فالأزمات الاقتصادية والمعيشيّة المُتلاحقة فعلت فعلها السّلبي في نفوس اللبنانيّين، ودمّرت كلّ ذرّة من الإيجابيّة كانوا يتسلّحون بها ليخوضوا غمار الحياة وهمومها اليوميّة.
يُصادف الاحد في العاشر من تشرين الاوّل الجاري اليوم العالمي للصحة النفسيّة. لبنان قد يكون على رأس الدول التي يجب أن تُعنى بهذا اليوم، فشعبه مُنكسر النفس حتّى الموت.
الحزن، القلق، التوتّر، الخوف، الكآبة، هي بعضٌ من الحالات التي يعترف عددٌ كبير من المواطنين بالشّعور بها خصوصاً خلال الأشهر الأخيرة الماضية، وقد تكون الأوضاع الحالية المُسبّب الأساسي لهذه المشاعر السلبيّة والحالات النفسيّة ما يُشكّل فعلاً ظاهرة خطيرة وغير مسبوقة في بلدٍ صغير يتلقّف الازمات واحدة تلو الأخرى من دون أيّ أمل بغدٍ أفضل يُعيد مسار الحياة الى سكّتها الطبيعيّة والصحيحة كباقي الشعوب.
منذ أيّام، أعلن الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تخصيص الدولة 8 جلسات علاج نفسي مجانيّة للمواطنين مع إمكانية التّجديد، بعدما أظهرت دراسة حديثة أنّ 10 في المئة من الفرنسيّين راودتهم أفكارٌ إنتحارية خلال الفترة الماضية، بالإضافة الى ارتفاع عدد الأطفال الذين يحتاجون لمُتابعة من معالجين نفسيّين. في لبنان، الدّولة المنهارة كشعبها، لا حول ولا قوّة لها، لم تعدّ تؤمّن لمواطنيها أدنى حقوق الاستشفاء والطبابة، في وقت يرزح فيه القطاع الطبي برمّته في دائرة الخطر بالزوال.
مقابل غياب الدّولة، تنشط جمعيّات تُعنى بمساعدة الأشخاص الذين يحتاجون لعلاج نفسي من مختلف الأديان والطوائف والجنسيّات والمناطق بشكلٍ مجاني، في محاولة لسدّ النقص الكبير من قبل الجهات المعنيّة في الدّولة، ولوضع حدٍّ لظاهرة الانتحار بشكل خاص التي تتسلّل الى كنف العديد من المنازل تماماً كما يتسلّل العوز والجوع والفقر والبطالة.
من بين هذه الجمعيّات، “إمبرايس”، وهي جمعيّة للعناية بالصحة النفسيّة في لبنان، تعمل بشكلٍ نشيط ومُنظّم بهدف الوصول الى كلّ من يحتاج لعلاج ومتابعة نفسيّة، خصوصاً الأشخاص الذين يفكّرون بوضع حدّ لحياتهم، مع الإشارة الى أنّ شخصاً في لبنان يُقدم على الانتحار في مدّة متوسطة بين يومين ويومين ونصف اليوم، بينما يُحاول شخص الانتحار كلّ 6 ساعات، في وقت تمّ توثيق 64 حالة إنتحار في النصف الاوّل من العام 2021.
وتُبرز أرقام شهر آب الصادرة عن الجمعية تلقيها 628 إتصالا على “خطّ الحياة” الخاص بها 1564 بالرغم من انقطاعه لأكثر من 8 أيّام بسبب التقنين في الكهرباء، كما تُبيّن أرقام آب أنّ 50 في المئة من الاتصالات وردت من أشخاصٍ تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، و53 في المئة من الأشخاص الذين خضعوا للعلاج في الجمعيّة يتقاضون أقل من مليون و500 ألف ليرة لبنانية، وحكماً لا يستطيعون دفع نفقات العلاج النفسي التي ارتفعت في الآونة الأخيرة وأصبحت بعض الجلسات تتخطى مبلغ الـ400 ألف ليرة، أي أكثر من نصف الحدّ الأدنى للأجور.
وفي هذا السياق، تؤكّد مديرة العلاقات العامة والتواصل في “إمبرايس” هبة دندشلي لموقع mtv أنّ “كلّ الازمات التي يشهدها لبنان هي أشبه بحواجز تمنع الاشخاص من عيش حياة طبيعية، وتخلق حالات نفسيّة سلبيّة لدى البعض وتزيد من حدّة وتطور المشاكل النفسية لدى من يعانون أصلاً منها، خصوصاً في ضوء عدم تمكن العديد من الاشخاص من الخضوع لعلاج نفسي بسبب الوضع الاقتصادي الصعب وغلاء التعرفة، فضلاً عن هجرة أطباء ومعالجين نفسيّين”، لافتة الى أنّ “خطّ الحياة هو الخطّ الوطني الساخن الوحيد للصحّة النفسيّة في لبنان، وهو يؤمن دعماً نفسياً وعاطفياً لكلّ من يتصل به، بينما مركز “إمبرايس” هو لتأمين جلسات علاجٍ لمن هو بحاجة لها”، وتوضح أن “الاتصالات بخطّ الحياة زادت بشكلٍ كبيرٍ، ووصلت الى 6 آلاف إتصال منذ بدء السنة وحتى شهر آب الفائت، وهو رقمٌ كبير”.
وتأسف دندشلي “لعدم وجود قوانين في لبنان تلحظ الصحة النفسيّة لدى المواطنين، بالاضافة الى جهات ضامنة تؤمّن حصول كلّ من هو بحاجة على جلسات علاج نفسي، تماماً كالصحة الجسدية خصوصاً في ظلّ كل ما نواجهه”، كاشفة عن قصة مؤثّرة حصلت خلال التّقنين في الكهرباء وانقطاع خطّ الحياة عن الخدمة: “إتصلّ بنا مواطنٌ كان على حافة الانهيار، وقد بذلت المتطوعة جهداً كبيرة لتسمع قصته وتساعده على مدار ساعة ونصف السّاعة، وقد أنهت مهمّتها قبل انقطاع الكهرباء بدقيقتين فقط، وأنقذت حياة هذا الشخص”، في إشارة الى التحدّيات الكبيرة التي يواجهها المتطوعون أيضاً من جراء الاوضاع السيّئة.
في فرنسا، كشف ماكرون أنّ 20 في المئة من الشّعب في بلده يعاني من الاكتئاب. في لبنان، إذا سألتَ أيّ مسؤولٍ أو معنيّ في القطاع الصحي العام عن هذا الموضوع، سيتبيّن لك أنه لا يعرف أي رقمٍ أو معلومةٍ عن الحالات النفسية للبنانيّين، وكأنّ هذا الملف ليس من ضمن الأولويات، في وقت يُعاني شعبٌ بأكمله من الاستسلام والحزن والخوف ممّا سيحمله المستقبل، وقد يحتاج الى سنوات طويلة من العلاج لتخطّي ما يحلّ به اليوم. قد يجوز البدء بعلاج هؤلاء، علّهم يشعرون ويفهمون حالة وطن أوصلوه بكامل وعيهم وإرادتهم الى حافة الانهيار… والانتحار.