بالأرقام، يسجّل لبنان أعلى نسبة تضخّم في العالم مع ارتفاع مؤشر الأسعار بنسبة 137.8% وفقدان الليرة اللبنانية 90% من قيمتها الشرائية.
لكن لم يعد ممكناً توصيف الوضع الراهن بالاعتماد على النسب والأرقام فقط، إذ إن لا شيء ثابتاً سوى التدهور المتواصل لأحوال الناس ومستوى معيشتهم.
يقدّر مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكية في بيروت كلفة الغذاء بالحد الأدنى لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد بأكثر من 3,500,000 ليرة شهرياً من دون احتساب كلفة المياه والغاز والكهرباء. بناء على هذه التقديرات، فإن موازنة الأسرة لتأمين غذائها فقط، من دون أي حاجات أساسة أخرى، قد تصل لحوالى خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور، الذي يساوي 675,000 ليرة.
في ظل مثل هذه الظروف، ومع الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية، يصعب تخيّل كيف يتدبّر أصحاب الدخل المحدود والذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور معيشتهم.
في ما يلي، شهادات لأفراد من عائلات لبنانية وسورية، عن كيف يواجهون متطلبات الحياة في لبنان اليوم بمدخول شهري لا يتخطى مليون ليرة، أي ما يعادل 60 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء.
فاتن: “مش مهم اتعالج، أقله إقدر طعمي ولادي”
تبلغ فاتن من العمر 45 عاماً. يعمل زوجها لدى معمل كونسروة شتورة، براتب شهري يساوي 900 ألف ليرة لا غير.
في السابق، كانت العائلة “مستورة”، بحسب فاتن، أما اليوم، فلا تجد السيدة الأربعينية الكلمات المناسبة لتصف تبدل أحوال عائلتها. ما إن يصل الراتب في أول الشهر، حتى يتبخر بعد سداد الفواتير الأساسية من كهرباء (50 ألف ليرة)، وبدل اشتراك مولد كهربائي (150 ألفاً) واشتراك إنترنت (60 ألفاً).
“بعد الفواتير، ما بيبقى شي لا للأكل ولا للدوا…” تقول فاتن، التي تعاني من خلل في المناعة يهددها بفقدان بصرها إذا لم تتلقَّ العلاج المناسب.
كان الدواء يستهلك الحصة الأكبر من نفقات العائلة، ولكن في الآونة الأخيرة، اضطرت فاتن إلى التخلي عنه. يبلغ سعر الجرعة التي تحتاجها شهرياً 25 دولاراً أمريكياً، أي ما يعادل 375,000 ليرة بحسب سعر السوق السوداء اليوم، وهو يشكل بالتالي أكثر من ثلث المدخول الشهري للعائلة، الثلث المتبقى لتوفير الطعام بعد دفع الفواتير الشهرية الأساسية. تقول فاتن “مش مهم اتعالج، أقله إقدر طعمي ولادي… ما بدي زوجي يحمل فوق طاقته”. توقفت فاتن أيضاً عن زيارة الطبيب منذ خمسة أشهر، لأن بدل المعاينة ارتفع إلى 300 ألف ليرة. تقول بحسرة “وصلت لمرحلة ممكن موت أنا وبالبيت بأي لحظة… هي نهايتنا”.
لا يزعج فاتن ما آل إليه وضعها الصحي، بقدر ما يزعجها أنها لم تتمكن من تسجيل ابنها الصغير أمجد في المدرسة، إذ طلبت الأخيرة من الأهالي توفير أجهزة إلكترونية وباقة أكبر من الانترنت، وهذا ما تعجز عن تأمينه.
طعام العائلة يقتصر على الخبز وبعض الخضر إن أمكن، وأنواع قليلة من الحبوب. “اللحم والدجاج إنلغوا من حياتنا” تقول فاتن ساخرة، وتضيف “ما في غير عدس وحمص وفول”.
أكثر ما تخشاه الآن هو اقتراب الشتاء كونها تسكن وعائلتها في منطقة جبلية البرد فيها قارص. لم تتمكن بعد من تأمين مادة المازوت أو مؤونة الحطب للتدفئة، وتخشى أن يكون توفير إحداهما “من سابع المستحيلات” بعد رفع الدعم عن المحروقات.
تنتظر كالعديد من العائلات اللبنانية البطاقة التمويلية الموعودة، والتي توفر مبلغ 25 دولاراً للفرد الواحد في الأسرة شهرياً، لمدة سنة. ستحصل فاتن وعائلتها على مبلغ 125 دولاراً، أي ما يعادل حوالى ضعفَي مدخول العائلة اليوم، مما قد يساعدهم، على حد تعبير فاتن، “على الاستمرار”.
يحاول أولادها اقتناص أي فرصة عمل، ولكن دون نجاح. تتكرر دعوات فاتن لشبانها الثلاثة بالهجرة، لأنها، بحسب قولها، “الحل الوحيد ليتغلبوا على جو الاكتئاب الي محاوط البيت”.
سارة: “أول فرصة مناسبة رح فل”
تعمل سارة ممرضة في أحد المستشفيات الخاصة مقابل 1,200,000 ليرة شهرياً. يشكل راتبها المورد الرئيسي الذي تعتمد عليه العائلة بعدما فقد زوجها وظيفته مع بداية الأزمة.
“المعاش ما بيبقى أكثر من 5 أيام” تقول. إذ إنها فور تسلمها راتبها، تسدد بدل الإيجار (400 ألف ليرة) ومصاريف المبنى الثابتة (75 ألفاً) وبدل اشتراك المولد الكهربائي الذي يراوح بين 150 و200 ألف، وتكاليف الهاتف والإنترنت (90 ألفاً). لا يبقى من الراتب سوى أقل من 300 ألف لنهاية الشهر.
تتبع سارة نظاماً صارماً لإدخار المال لأجل الأولويات من مأكل ومشرب، “استغنينا عن الطلعات، والمشاوير صارت مستحيلة” تقول. حتى أنها باتت تتفادى المشاركة في المناسبات الاجتماعية من زيارات عائلية، لما تسببه لها من زيادة في النفقات.
أكثر ما يشغل تفكير سارة اليوم هو كيفية توفير قسط مدرسة طفلها الوحيد أمير، الذي يساوي 6 ملايين ليرة. رغم قساوة الحال، ترفض نقله من مدرسته الخاصة إلى مدرسة رسمية، كونها فقدت الثقة بالدولة وكل ما يرتبط بها.
لا حل اليوم أمام الشابة العشرينية سوى الهجرة. “أفكر في السفر ليلاً ونهاراً، حاولت أكثر من مرة تقديم طلب الهجرة الخاص بالطواقم الطبية، إلى فرنسا وبلجيكا وغيرهما من الدول، ولكن طلبي كان يرفض كل مرة” تقول. وتضيف “البلد تخلى عنا… أول فرصة مناسبة رح فل”.
سلطان: “طالما صحتي منيحة الأولاد بخير”
لجأ سلطان إلى لبنان عام 2016 هرباً من الحرب في سوريا. اتخذ من قب الياس البقاعية مسكناً، ونصب خيمة يعيش فيها مع زوجته وأولاده العشرة، الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم سناً الـ17 عاماً.
يعمل في البناء والزراعة لدى عائلات لبنانية في المنطقة. يتفاوت أجره من شهر لآخر حسب “كيف بتجي الرزقة” يقول، إلا أن الأجر لا يتجاوز المليون ليرة في أفضل الأحوال. كما يعمل ابناه التوأمان حسين وخالد (11 عاماً) في سوق الخضار المركزي، حيث يتوليان توضيب البضائع ونقلها للزبائن، معتمديْن على “البقشيش” الذي لا يتجاوز الـ15,000 ليرة في اليوم الواحد.
لا يملك سلطان مصاريف ثابتة كبدل الإيجار ورسوم المياه والإنترنت. حاجته من المياه يوفرها عبر مختار البلدة، كونه يعيش بالقرب من منزله. أما فاتورة اشتراك الكهرباء، فلا تتعدى 50 ألفاً في أسوأ الأحوال “الأولاد ممنوع يحضروا تلفزيون غير مرة بالاسبوع، مش ضروري” يقول.
لم يعد بإمكان العائلة سوى توفير الضروري جداً، والذي لا يمكن الاستغناء عنه مثل الخبز والحليب وحفاضات الأطفال. “باليوم العيلة بدها خمس ربطات خبز، كانت الربطة بـ1,500 ليرة، هلق صارت 5,000 ليرة”، ويضيف مع ضحكة “الأولاد شريبة شاي بدهم كل شهر كيس سكر 25 كيلو، والكيلو بـ13,000 ليرة، قديش بيطلعوا ما بعرف إحسبهم”.
أكبر مخاوف سلطان تدهور حال ولده محمد (17 عاماً) الذي يعاني من إعاقة ذهنية. يخشى من عدم قدرته على توفير المال الكافي لعلاجه في حال اضطر إلى إدخاله المستشفى، رغم توفر المساعدة من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
يراهن الأب الأربعيني اليوم على صحته فقط، يعتبرها رأسماله الأوحد لضمان حياة أطفاله، “طالما صحتي منيحة الأولاد بخير، بشتغل كرمالهم ليل نهار” . “منصبر حتى الله يفرجها، ربنا عالم بكل شي” جملة يرددها سلطان باستمرار علّ من يتوسل إليه يُجيب.
أنجزت هذه المادة ضمن مشروع “شباب22″، برنامج تدريبي لموقع رصيف22 يرعاه مشروع دي- جيل D-Jil، بالاعتماد على منحة من الاتحاد الأوروبي تشرف عليها CFI.