غريبة هي السياسة في لبنان، وخصوصاً في العامين المنصرمين، باعتبار أن الكثير من القواعد السياسية الكلاسيكيّة لم تعد تنطبق على الواقع السياسي اللبناني. قد يكون من الجيّد هذا الأمر، لأن قادة أحزاب الأكثريّة النيابيّة لا يعون هذا الواقع، ولا يزالون يمارسون السياسة على أساس القواعد السياسيّة الكلاسيكيّة، كـ”لا شيء يوحّد الشعوب حول قائدها سوى العدو المشترك، لذا لا نرى في أزمنة الحروب الناخبين يغيرون قادتهم”. هذه القاعدة الكلاسيكيّة في السياسة يحاول بعض الأحزاب اللعب عليها، من أجل إعادة تحسين حالتها الشعبيّة، خصوصاً “التيار الوطني الحر”، “تيار المستقبل”، كما أنه بطبيعة الحال “حزب الله” الذي ما فتئ واضعاً بيئته في حربٍ دائمة ومتواصلة منذ نشأته في ثمانينات القرن الماضي، فمن إسرائيل إلى التكفيريين، حروبٌ غير منقطعة النظير، لذا ما نراه اليوم من حرب ضد “الحصار” ليست من أجل تحسين حالته الشعبيّة كالآخرين، وإنما من أجل تحصينها بشكل كامل.
في هذا الإطار، إذا ما أردنا قراءة الواقع الإنتخابي اليوم أو كيف تتحضّر هذه الأحزاب لخوض معركتها الإنتخابيّة، نجد أن “التيار الوطني الحر” بدأ منذ سنة بالتحضير عبر معاركه “الدونكيشوتيّة” الوهميّة من أجل استعادة الحقوق، ولم يوقفه تيار “المستقبل” عند حدّه في المسألة، لمعرفته أن معاركاً مماثلة، من شأنها أن تفيده على المدى الطويل الإنتخابي، إن لم تفده على المدى القصير حكومياً، في تمكين رئيسه الرئيس سعد الحريري من تأليف الحكومة.
وللمفارقة هنا، الجميع يذكر جيداً عندما طرح الرئيس سعد الحريري نفسه كمرشح للتكليف، وقفت عندها “القوّات اللبنانيّة” ناصحةً بأن هذه الخطوة السياسيّة غير موفّقة، باعتبار أن الأكثريّة الحاكمة لن تسمح للحريري بتأليف الحكومة التي يريد وأمامه خيار من اثنين، إمّا التسليم سياسياً والقبول بشروط العهد أو الإعتذار، فأتى الجواب سريعاً من قيادة تيار “المستقبل” إنهم ليسوا بحاجة للنصح السياسي، والحريري يقوم بذلك تضحيّة في سبيل الوطن.
وعندها وقفت قيادة “القوّات” متسائلةً عما يراه الشباب في “المستقبل” وهو غير مرئي لسواهم في الأفق السياسي. النتيجة، أن التضحية انتهت بما كان مرسوماً لها في المنطق السياسي وهو الإعتذار، ولكن المخفيّ قد بان وهو النية في الدخول في اشتباك سياسي مع العهد من أجل شدّ العصبيّة الطائفيّة، وبالتالي الكسب على المدى الطويل الإنتخابي. ولربما الإنزعاج الذي أبداه قادة “المستقبل” بعد تمكّن الرئيس نجيب ميقاتي من تأليف الحكومة، مردّه إلى فقدانهم هذا “المغنطيس الشعبي” إنتخابياً.
أما بالنسبة لـ”التيار الوطني ” فأيضاً يذكر الجميع تصريح رئيسه النائب جبران باسيل من مجلس النواب عقب لقاء تكتل “لبنان القوي” مع الرئيس الحريري، والذي أبدى فيه كل استعداد لتسهيل التأليف إلا أنه لم يقم بذلك، وإنما ذهب لفتح معارك “دونكيشوتيّة” بطابع طائفي لمحاولة شدّ عصب الشارع المسيحي وإحراج الجميع، بمن فيهم غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى، إلاّ أن اللعبة السياسيّة الكلاسيكيّة لم تنطلِ على أحد، وقد انفضحت سريعاً التقيّة السياسيّة في تجرّع كأس السمّ من جهّة والملائكيّة المفاجئة في تسهيل التأليف من الجهة الأخرى.
الواضح أن قادة “التيار” و”المستقبل” لم يفقهوا بعد أن القواعد السياسيّة الكلاسيكيّة لم تعد تستقيم اليوم في بلد كلبنان، لأن الشارع في حالة غليان والرأي العام في حالة تغيّر كبير جراء الأزمة المستفحلة في البلاد، إلاّ أن هذا الأمر لا يعني أن الناس فقدت حسّ المنطق الفطري من رؤوسها ومن الممكن اللعب على غرائزها. فسبب غليان الشارع والمتغيرات في الرأي العام هو وعي شعبي جماعي، وليس أبداً كما يحاول البعض تصويرها على أنها حالة قرف من كل شيء وتريد تدمير كل شيء.
هذا الواقع الذي حاولت بعض الأقليات الهادفة المتغلغلة في صفوف الإنتفاضة الشعبيّة وبعض المتنطحين والمتكنين بالثورة تصويرها، لا تمثّل الرأي العام اللبناني أبداً. والإنتخابات النيابيّة غداً وهذا الغد لناظره قريب. فهذه الأقليات، إن كانت سياسيّة ومن المجتمع المدني بالإضافة إلى بعض الشخصيات المتنطّحة تمكنت في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت، من اللعب على غرائز الناس بشكل لا يختلف أبداً عن محاولة “التيار الوطني ” و” المستقبل” الآنفة الذكر، وقد نجحت. إلاّ أن هذه اللعبة التي انطلت على الناس مرّة انكشفت، ولن تنطلي عليهم أبداً مرّة أخرى والدليل ما حصل في نقابة الأطباء في بيروت.
في المحصّلة، لن يقف الشعب اللبناني حكماً في الإنتخابات النيابيّة المقبلة ما بين تقيّتين، الأولى لأحزاب السلطة، والثانية لبعض تجمّعات المجتمع المدني والمتنطّحين، فالجهتين إن اختلفتا بالأسماء والأوجه والشكل إلاّ أنهما متشابهتين في المضمون، الشعب اللبناني سيقف حكماً ما بين كل هؤلاء والسياديين الوطنيين الذين يمارسون السياسية من أجل الصالح العام وبناء المجتمع، والذين يناضلون منذ ما قبل أن تتكوّن هذه الأحزاب والتجمعات من أجل حريّة وسيادة واستقلال لبنان، وهذه الأحزاب والشخصيات معروفة بالإسم ومشهود لها في ممارستها السلطة.
“ليبانون ديبايت” – بولس عيسى