كتبت فرح نصور في ” النهار”:
بعد رفع الدعم عن المحروقات وتشكيل الحكومة وتوجّهها إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وفيما مصرف لبنان توقّف عن دعم المحروقات لنفاد احتياطيه وعدم نيّته المس بما تبقّى من الاحتياطي الإلزامي لديه دون موافقة تشريعية، لا يزال استيراد المحروقات يتم عبره، إلى جانب ما هو مطلوب منه من تمويل البطاقة التويلية والمستلزمات الطبية وبعض الأدوية.
ريثما يتم الاتفاق مع صندوق النقد، من أين سيؤمّن المركزي الدولارات هذه في ظل اقتصادٍ غير منتِج وعدم دخول الدولارات من الخارج، وفي حين أنّ دولارات المغتربين تُخزَّن في المنازل؟
لدى المركزي حالياً، وفق ما يصرّح، 14 مليار دولار ممّا تبقى من أموال المودعين، إلى جانب حقوق السحب الخاصة للبنان لدى صندوق النقد الدولي (مليار و135 مليون دولار). لكن هناك تريّثاً في إنفاق هذه الأموال ريثما تبدأ مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد، لتقديم سلة متكاملة، بحسب الأستاذ المحاضر والباحث في الشؤون الاقتصادية، البروفسور روك-أنطوان مهنا، فأهمّ مسألة اليوم هي مسألة المحروقات. ويضيف: “صحيح أنّ البنزين سُعّر على 14000 ليرة للدولار، إلّا أنّ سعر صرف الدولار يرتفع، ونترقّب بذلك ارتفاعاً بسعر المحروقات”.
وقد ألزم المركزي، وفق مهنا، مستوردي المحروقات بأن يدفعوا لمصرف لبنان بالدولار “الفريش” (fresh)، لأنّ احتياطه بالدولار نفد. وحتى أصحاب المولدات أُلزموا بدفع ثمن المازوت بـ”الفريش”، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأدوية و غيرها. بهذه الطريقة، يؤمّن المصرف المركزي الدولارات من السوق السوداء، وبذلك، بحسب مهنا، “يزيد الطلب على الدولار في هذه السوق، ما يدفع بسعر الدولار إلى الارتفاع، أي أنّ المركزي يدفع بالتجار لتأمين الدولار من السوق السوداء لإتمام الاستيراد”.
والعثرة الأخرى في تأمين الدولارات، هي تمويل البطاقة التمويلية. وفيما البنك الدولي وافق مبدئياً على تحويل قرض للنقل العام لتمويل البطاقة التمويلية، يسأل مهنا عن مبلغ المليار و 135 مليون دولار، لأنّ الاقتراح التقني المرجَّح هو إضافة هذا المبلغ إلى الاحتياطي للجم تقلّبات سعر الصرف الحادة”.
ويخلُص مهنا في حديثه لـ “النهار”، بالقول: “نحن أمام أزمة تأمين سيولة بالدولار “الفريش”، والحكومة إزاء هذا الواقع، لا يسعها فعل أي شيء مع المركزي سوى شراء الوقت، ريثما يتم تأمين الفيول العراقي واستجرار الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا”، معتبراً أنّه “في إطار تنفيذ الحكومة الشروط المطلوبة من صندوق النقد، وعلى رأسها الإصلاحات، يجب ألّا ننسى أنّنا على أبواب إنتخابات والإصلاحات غير شعبوية، هل ستتعاون الدولة؟”. إذاً، جميع الخطوات الحالية يصفها مهنا بـ”الترقيع”، إلى حين نضوج المفاوضات ودخول الدولارات “الفريش”.
هل يلجأ المركزي إلى التحويلات الخارجية؟
وعن احتمال لجوء المركزي إلى أموال التحويلات الخارجية الآتية عبر شركات تحويل الاموال، برأي مهنا أنّ “في ظل القلّة وشحّ الدولار “الفريش” قد يتوجّه المركزي إلى هذه الوسيلة لتأمين الدولارات، لكنّه في حال قرّر اللجوء إلى هذا الاحتمال، سيقع أمام صعوبة تحديد سعر صرف يعتمده لتسديد هذه الأموال لأصحابها، ما قد يحدّ من هذه التحويلات، إذ إنّ لبنان يعيش حالياً على هذه التحويلات، وهذه الخطوة لن تكون ذات فعالية إلّا في حال توحيد سعر الصرف”.
في سياق متّصل، وعن احتمال لجوء المركزي إلى دولارات التحويلات، يرى الأكاديمي والخبير الاقتصادي، الدكتور بيار الخوري في حديث لـ “النهار”، أنّ ما أعلنه المركزي من سماح للمصارف بتسديد تحويلات المودِع بالليرة على سعر السوق، يعني أنّ المركزي شرّع من خلال ذلك تعامل المصارف بسعر السوق السوداء، وبالتالي أجاز لها بأن تلمّ الدولارات من الناس وتعطي للشخص تحويلاته الخارجية بالليرة على السعر العائم، وتحتفظ أكثر بحيازة نقدٍ أجنبي. وبهذه الطريقة، يستخدم المركزي هذه الدولارات بطريقة من الطرق، في إطار التسهيلات التي قد أعطاها للمصارف التجارية.
وبرأي خوري أنّ “الأمر نفسه سينطبق على شركات التحويلات الخارجية حالياً، فبشكلٍ غير رسمي تقوم هذه الشركات بهذه الممارسات، وقد استخدم المركزي في تعميمه كلمة “السوق” بدلاً من السوق السوداء، لإضفاء الشرعية على سعر السوق السوداء”.
وعن وسائل أخرى يتّجه إليها المركزي لتأمين الدولارات، يشير خوري إلى أنّ “مصرف لبنان يخرج من سوق المستورَدات بشكلٍ تدريجي”. الأسبوع الماضي، سعّر المركزي النفط بـ14000 ليرة للدولار، ويرى خورى أنّ “هذا الأسبوع من المرجَّح أن يرتفع هذا السعر إلى 16000 ليرة، ما يعني أنّ الشركات لم تعد مضطرة إلى اللجوء إلى المركزي لتحصّل دولاراتها للاستيراد عندما يصبح سعر السوق السوداء شبيهاً بسعر الدولار الذي تُفتَح على أساسه الاعتمادات، لذلك، تتّجه الشركات المستورِدة إلى تأمين الدولارات لإعطائها إلى المركزي بغية فتح الاعتمادات”.
هذه الخطوة تمرّ بمرحلة انتقالية يؤمِّن فيها المركزي الدولارات للمستوردين على سعر السوق السوداء، كما يحصل الآن، ويستفيد المركزي عبر سحب السيولة بالليرة من الأسواق مقابل الدولارات التي يضخها، ويوازن أكثر في إدارته للسيولة، لكن من المتوقَّع أن يطلب المركزي من الشركات أن تؤمّن دولاراتها من السوق السوداء، هذا ما يوضحه خوري.
ويضيف أنّ العلاقة تنحصر بذلك بين المستوردين والمصارف التي يتعاملون معها، وبين المصارف والمصارف المراسِلة لتأمين دفع ثمن المحروقات. فعندما نتحدّث عن رفع الدعم، يُترجَم ذلك بانتهاء العلاقة بين المركزي والمستوردين. ففي حال تحرير سعر الصرف، هذه العلاقة لن تكون ضرورية، وبعد الاتفاق مع صندوق النقد، ستنحصر هذه العلاقة في المركزي وبعض المستوردين لتأمين الدواء والطحين والفيول للدولة فقط.
في الخلاصة، قد لا يكون أمام المركزي سوى اللجوء إلى السوق السوداء والتحويلات الخارجية لتأمين الدولارات. علماً أن اللجوء إلى السوق السوداء يخلّف مخاطر كبيرة، إذ يؤكّد خوري أنّنا “سنشهد ضغطاً على سعر الصرف وقيمة هذه الدولارات تتبخّر في سيارات الناس ودواخين المطاحن والمصانع، وتجديد الطلب على استيراد المحروقات يزيد من الطلب على الدولار، وهذا الأمر يخلق دورة جديدة من مخاطر ارتفاع سعر الصرف ومخاطر التضخّم، لأنّ في مقابل ذلك، لا تدخل أموال أجنبية إلى البلد”.