ليبانون ديبايت” – وليد خوري
لا زال هنيبعل القذّافي مرمياً منذ سنوات في سجن فرع المعلومات من دون متابعة أو مضبطة إتهامية واضحة. آخر تطوّرٍ سُجّل في القضية كان حين أجرت وكيلته القانونية المقيمة في الخارج ريم الدبري، محاولةً “خجولة” وعبر التواصل المباشر لاستنهاض وسائل الإعلام المحلية لتسليط الضوء على الحالة السيئة التي يعيشها الرجل، من دون أن تلقى أي تجاوب طبعاً، فالخطوط الحمراء المرسومة أمام القضية تعجز عن كسرها حتى الجمعيات الحقوقية!
حال روسيا ليس أفضل. موسكو التي أعلنت عن تبنّيها قضية هنيبعل، وأبلغت النظام السوري بذلك ونالت منه تفويضاً على سبيل المعالجة، لم تقدر على حفر ولو كوّة في جدار السياسة الصلب، ما دفعها إلى إيقاف مساعيها منذ مدّة طويلة، وإيصال رسالة شديدة اللهجة إلى عين التينة، بعدما اتضح لدى الرّوس أن “أبو مصطفى” لا يريد إيجاد حل لهذه القضية. عملياً، يكون الروس قد انسحبوا إلى الخلف، وساءت علاقتهم برئيس المجلس نبيه بري.
السوريون بصفتهم “أولياء أمر هنيبعل” بغياب والده، وخلافاً لما يتردّد، لم يشتغلوا على الملف سواء مع الدوائر القضائية أو السياسية اللبنانية، لتأمين إطلاق نجل الزعيم الراحل معمّر القذافي، بل كان لهم مطلب واحد ومرّروه إلى من يعنيهم الأمر في الداخل اللبناني مفاده: كما أُخذ هنيبعل من الشام عليهم إعادته. باختصار المطلب السوري صريح وواضح: إسترداد هنيبعل القذافي المحصّن بموجب قرار “لجوء سياسي”، من خارج أية تسويات، مفاوضات أو صفقات!
وإلى أن يحصل ذلك، أجرى السوريون دوزنةً على علاقتهم مع الحلفاء التاريخيين لهم داخل التركيبة اللبنانية. وكما هو الحال في دمشق كذلك في بيروت، أجرى النظام إعادة قراءة سياسية تقرّر في أعقابها إجراء تبديلات على مستوى الحلفاء “درجة أولى”. بطبيعة الحال، بقيَ “حزب الله” في أسمى طبقة سياسية بالنسبة إلى الأمويين، لكن الوضع لم يكن كذلك بالنسبة إلى شريكهم التاريخي حتى عام 2005 حركة “أمل”، التي أضحت بالنسبة إلى النظام في آخر سلّم الترتيب، وقد أحتل مكانها الصديق الشخصي للرئيس بشّار الأسد الأمير الدرزي طلال أرسلان.
في الحقيقة، لم تكن قضية هنيبعل القذافي هي الوحيدة التي أملت على القيادة السورية مراجعة أولوياتها بالنسبة إلى العلاقة السياسية مع الأقطاب اللبنانيين. لقد شكّلت الأحداث في سوريا (2011-2020) مؤشراً رئيسياً أو بوصلة مركزية لتلك العملية، وقد وصلها من بيروت أن كثراً كان يجّهزون أنفسهم لحجز كرسي في احتفال تنصيب القيادة الجديدة! في موضوع حركة أمل “الحسّاسة” بالنسبة إلى قيادة الشام، كان النظام يمنّي النفس أن يشاهد الحركة ورئيسها إلى جانبه في اللحظة المصيرية، وهنا وخلافاً لما يتردّد، لم يكن مطلوباً من الرئيس برّي، إرسال مقاتلين إلى محيط دمشق، وبشار الأسد لم يطلب ذلك كحاله مع “حزب الله”، لكنهم لم ينتظروا مثلاً أن يأتيهم تسجيلٌ صوتي مسرّب من جلسة لبري مع مجموعة أشخاص يزفّ فيها نبأ “انتهاء بشّار الأسد سياسياً”! هذا المقطع الذي أوصله سياسي لبناني إلى الأسد شخصياً وأسمعه إياه في مكتبه، بعدما حرص على وجود وجوهٍ سورية معروفة، شكلَ مفصلاً أساسياً في العلاقة مع عين التينة لاحقاً، إلى حدّ إبلاغ الشام مثلاً بأن حركة أمل “غير مرغوب بها”، وهو ما طُبّق خلال الفترة اللاحقة التي كانت دمشق ترفض فيها بشكل مستمرّ قبول زيارات لمسؤولي الحركة بصفتهم الحزبية وإن كانوا يحملون صفات وزارية، وقد بقي القرار ساري المفعول مدة طويلة، وكُسر لاحقاً وبشكل استثنائي لزوم قضايا ذات شؤون رسمية، ولم يكن ذلك ليحصل إلاَ عقب تدخلات، من دون أن يطرأ أي تغيير على صعيد موقف النظام. وقد وصل بعض المقرّبين منه إلى حدّ وضع حركة “أمل” في نفس خانة “حركة حماس” الفلسطينية، ولم يخجلوا في استهدافها مراراً.
في بيروت، كانت قيادة حركة “أمل” تتلقّف ما كان يحدث في الشام باهتمام دائم خلال الفترة اللاحقة التي تبيّن أن وجود بشّار الأسد في الحكم عصيّ على الإختراق وبعدما وصلها أن ثمة تسجيلاً بات في الشام، كانت الحركة تطمح إلى إعادة تصحيح العلاقة. وليس سرّاً أن الحزب قد دخل على خط القيادة في الشام، لكن الأخيرة فضّلت التروي، وقد ربطت أي حلّ محتمل بقرار لإنهاء حالة الشواذ بالنسبة للتوقيف التعسفي لهنيبعل القذافي، بالإضافة إلى نزعةٍ تولّدت من احتمال أن تكون سوريا تريد “الإقتصاص” من نبيه بري عملاً بنظرية كان زوار الشام ينقلونها إلى بيروت ومفادها أن دمشق “تُعاين ضعف بري السياسي باهتمام”.
قبل مدةٍ قصيرة، بدأ مراقبون يلاحظون تبدّلات في النبرة الخطابية أخذت تطرأ من جانب القياديين في حركة “أمل”، ومنهم الرئيس نبيه بري شخصياً (خطاب ذكرى اختطاف السيد موسى الصدر لعام 2021) تجاه الشام، وإعادة التركيز على ذكر العبارات القديمة حيال ضرورة العلاقة سواء مع سوريا أو مع جيشها، وقد نمى أن تلك المفردات ما هي إلا محاولات لاستطلاع الموقف السوري، غالباً لم تأتِ بأي نتيجة تذكر.
تأسيساً على ذلك، كان ثمة طموح لدى اللواء عباس إبراهيم في إجراء اختراقات على صعيد علاقة الحركة مع القيادة السورية، ويبدو أن ذلك كان بدافع أو برغبة أو حتى موافقة من جانب قيادة حركة “أمل”، وكان التعويل على مكانة اللواء إبراهيم بالنسبة للقيادة في الشام. ومع أن ابراهيم نجح في إحداث اختراقات على مستوى نظرة النظام السوري إلى الحركة وصولاً للسماح لوزرائها بزيارة دمشق، إلاّ أن طريق الشام لم تُعبّد أبداً، بفعل القرار عينه: إيجاد حل لقضية هنيبعل القذافي. ولم يعد سرّاً أن الحركة – وربما عن طريق اللواء ابراهيم أو آخرين – طرقت باب بغداد في محاولةٍ للتدخل لدى النظام السوري من أجل محاولة تصحيح العلاقة، وهي معلومات حقيقية نطق بها الإعلامي سامي كليب قبل مدة، لكنها لم تأت أيضاً وأيضاً بأي نتيجة للسبب ذاته: هنيبعل القذافي.
ويبدو أن القيادة السورية ملتزمة كلياً قضية هنيبعل القذافي ولن تحيد عنها، وإذا كان هناك من احتمال ولو ضئيل لإجراء قراءة شاملة على العلاقة مع بري بما خصّ مواقفه السابقة، إلاّ أنه يصعب في مكان إسقاط ذلك على قضية نجل الزعيم الليبي، ورسالة دمشق إلى بري الآن وغداً وبعد حين واضحة: هنيبعل أولاً.