لو عدنا إلى الوراء سنة وأكثر، وعند الحديث عن صندوق النقد الدولي، كانت فرائص المسؤولين ترتعد وأسنانهم تصطك ويتصببون عرقاً ويحجمون عن التصريح بضرورة تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي المجحفة بحق الشعب اللبناني. بل كان هناك شبه إجماع على أن الشروط المطلوبة من قِبله ستضرّ بالفئات الفقيرة والمعدمة
فعند وقوع الدول في الأزمات تلجأ إلى صندوق النقد الدولي كملاذ وخشبة خلاص، وكأنه قدر لا مفر منه. ولكن الثابت تاريخياً أن الدول التي لجأت إلى الصندوق عند أزماتها، وقعت في براثنه ولم تستطع التخلص من سطوته وتعمقت في داخلها الفجوات الاجتماعية، وفق ما يقول الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور ايمن عمر لـ”النهار”. لكن ومع ازدياد حدة الانهيار والحالة المعيشية المأسوية وتخطي نسبة الفقر 74% ومعدل البطالة 65%، أصبح اللجوء إلى الصندوق مطلبا شعبيا ووطنيا حيث “يجد الشعب المقهور المذلول في شروط الصندوق ذلا أخف، والأنكى من ذلك انهم يعلّقون الآمال عليه في انتشالهم من مأساتهم”
ويعتبر عمر “ان غالبية شروط صندوق النقد صارت واقعا ملموسا بفعل الانهيار وتداعياته، فرفع الدعم يسير بخطوات متدحرجة نحو الرفع الكلي الشامل، والبعض يفضل رفع الدعم على اعتبار أن جميع حاجاته ستتوافر بدل انقطاعها. الآلاف من الموظفين في القطاع العام تركوا وظائفهم وهاجروا لتصبح إعادة هيكلة الإدارات العامة أمرا سهلاً. أما تحرير سعر الصرف فهو متحقق بالممارسة والفعل من دون قرار رسمي، وهو متلازم مع رفع الدعم ليصبح رسميا. وتبقى رفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة TVA تحصيل حاصل لا تقدم أو تؤخر في هذا الإطار، فالفزع من التضخم صار من الماضي”
وأمام هذا الواقع، يرى عمر أن “الشروط المجحفة للصندوق قد تخطاها الزمن، ونحن الآن أمام إشكالية أكبر بكثير وهي الفاتورة السياسية المطلوبة. لن يرتدع من يقف وراء صندوق النقد والذي تسبّب بهذا الانهيار والاغتيال الاقتصادي للبنان عبر العقوبات الاقتصادية عن تحقيق مكاسبه السياسية، وهو يجد الآن الفرصة مؤاتية لذلك، وهي فاتورة كبيرة: ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز، إعمار مرفأ بيروت، سلاح حزب الله ودوره في لبنان والمنطقة، التطبيع، اللاجئون الفلسطينيون والسوريون… قضايا كبيرة مرتبطة بهوية لبنان المستقبلي وموقعه في المنطقة تُرتسم عبر هذه الفاتورة، وهي قضايا متلازمة المسار مع محادثات فيينا حول الاتفاق النووي الإيراني في ما يرتبط بالشق اللبناني، لذلك لا يمكن الفصل بين هذه المفاوضات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي”
ووفق عمر فإن “الحكومة الحديثة الولادة هي حكومة مهمتين أساسيتين والباقي تفاصيل صغيرة: الأولى تهيئة الأرضية المناسبة للتفاوض مع صندوق النقد، والثانية إجراء الانتخابات النيابية في الربيع المقبل. وسيتنازع داخل الحكومة تياران متناقضان: تيار الصندوق المتمثل بوزراء المال والاقتصاد والخارجية، وتيار التنويع في الخيارات والتوجه شرقا والذي يعتبر استقدام بواخر النفط الإيرانية هي قص شريط افتتاح لهذا الخيار. من هنا تستبطن الحكومة في داخلها ألغاما مفصلية متفجرة ستتكشف عند القضايا المفصلية ومنها مترتبات الاتفاق مع صندوق النقد، وخصوصا أن الحكومة وُلدت عند لحظة خارجية مناسبة، وستتأثر بأي خلاف خارجي بدأت ملامحه تظهر في الخلاف الفرنسي – الاميركي”.
المصدر : النهار