تتّضح لعبة الدولار يوماً بعد يوم وتنكشف أسرارها عند مفترق كل أزمة. فمسرحية ارتفاعه وهبوطه لا تزال حتى اليوم تتحكّم بها المضاربة وعوامل سياسية بحتة، بعيدة كل البعد عن أي أسس اقتصادية أو نقدية تضعه على سكة التراجع الصحيحة، إذ لا يختلف إثنان على أنّ سعر صرف العملة الخضراء الذي لامس عتبة الـ24 ألفاً في تموز الماضي ليس هو السعر الحقيقي، إنما مجرّد سعر تضخمي لا يعكس قيمته الفعلية.
عوامل كثيرة ساهمت في انخفاض الدولار، أبرزها تشكيل حكومة جديدة بعد فراغ دام 13 شهراً وحصول لبنان على الـ10135 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. في المقابل، تلوح في الأفق عوامل مضادة سيكو نلها الأثر الأكبر في معاودة ارتفاعه، أبرزها رفع الدعم عن المحروقات ولجوء المستوردين إلى الأسواق لتأمين الدولار عوضاً عن تأمينه من مصرف لبنان، وتكرار فشل المفاوضات مع صندوق النقد وعدم الإسراع في إطلاق عجلة الإصلاحات التي تجلب المساعدات الدولية.
وبفعل هوس الدولار والإدمان عليه، حوّلت الأزمة المالية والنقدية العديد من اللبنانيين إلى صرافين، وأصبحت المتاجرة بالعملة الوطنية من أجل كسب الربح السريع غاية مشروعة، في حين شرع البعض الآخر بتخزين الدولار في المنازل وانتظار الفرصة السانحة لبيعه. اللبنانيون الذين يخوضون معركة خاسرة مع الدولار في كل مرة تأخذ فيه العملة الخضراء منحى تراجعياً، يتحكّم بخسارتهم العامل النفسي بالدرجة الأولى وقلة الوعي حول المسار الذي تسلكه، فيسارعون بعد كل شائعة أو حدث سياسي إلى محلات الصيرفة لبيع دولاراتهم والتخلص منها تفادياً للمزيد من الخسارة في حال استمر هبوط سعر صرفه، ويصابون بحالة من الهلع، غير مدركين عواقب هذه الخطوة. فهم أولاً خسروا القيمة الشرائية لدولاراتهم التي كانت بحوزتهم، ومن ثم سمحوا للمضاربين بجمع الدولار من السوق بالرخيص على سعر منخفض، كذلك استطاع مصرف لبنان شراءه لزوم المحروقات بأقل كميات ممكنة من الليرات. أما أولئك الذين يحتفظون بما لديهم من عملة أجنبية غير آبهين بمنحاه التصاعدي أو الانحداري، فهم وحدهم الرابحون في هذه المعركة، فإذا ارتفع سعر الدولار ارتفعت قيمة أموالهم مقابل الليرة، وإذا انخفض سعره لن تتأثر قيمته الشرائية، وفي الحالتين يتجنبون أي خسارة قد تلحق بهم جراء تقلبات سعر الصرف.
ينتظر الدولار في الأسابيع القليلة المقبلة محطات مفصلية ستدفعه إما لمعاودة الارتفاع أو الاستمرار في الهبوط. وفي حين يُجمع الخبراء الاقتصاديون على أنّ انخفاض الدولار هو حالة موقتة قبل الارتفاع مجدداً بعد رفع الدعم، يبقى السيناريوان المنتظران رهن عمل وقرارات الحكومة وقدرتها على المباشرة في الإجراءات الهيكلية. فالعوامل السياسية لن يكون بمقدورها الإبقاء على سعر صرف منخفض ومصطنع إن لم تترافق مع عوامل اقتصادية غير وهمية تقود الدولار بثبات نحو الانخفاض والاستقرار، لا سيما أنّ حالات الانخفاض هذه شهدها لبنان في أكثر من مرحلة سابقة.
وهنا نصيحة لكل حامل دولار لا يحتاج إلى صرفه من أجل الاستيراد أو تأمين قوت يومه، ألا يستند فقط إلى الأجواء الإيجابية التي يتم بثها أو إشاعتها، فالاستغناء عن الدولار اليوم قد يصعب تأمينه لاحقاً، في ظل وجود قطاع مصرفي غير قادر على إعطاء المودعين أموالهم الدولارية وصرافينجشعين يرفضون البيع بحجّة عدم توافر العملة الأجنبية لديهم، ويفضلون الاحتفاظ بها من أجل الاحتكار والمضاربة، وبالتالي لن يكون هناك أي مصدر أمام المواطنين لشرائه حتى لو توافر لديهم ما يوازي قيمته بالليرة اللبنانية… فابتعد عن لعبة التكهّن والتخمين وحافظ على عملتك الأجنبية، فالدولار اليوم موجود وغداً قد يكون مفقوداً.