“السياسة هي فنّ الممكن” عبارة يعرّف بها “الواقعيون” السياسة، إلا أننا لا يمكننا بأي شكل من الأشكال تعميم هذه العبارة لتصبح تعريفاً عاماً للسياسة، باعتبار أن في السياسة مدارس تختلف بالمنطلقات الفكريّة والمقاربات الآنية، وبالتالي، لكل تيار أو مدرسة سياسية تعريفها الخاص للسياسة في العلوم السياسية.
بالنسبة للحركات الثوريّة التي تؤمن بأهداف تغييرية للواقع، السياسة يجب ألا تكون أبداً فن الممكن، وإلاّ تُدجّن هذه الحركات في البراغماتيّة السياسية وتصبح أسيرة الممكن، الأمر الذي يتناقض مع وهج شعلة التغيير الثورية التي تتّقد فيها وتدفعها للكفاح من أجل تغيير الواقع إلى واقعٍ آخر تؤمن هذه الحركة بأنه أفضل.
فما بالكم، إن كانت هذه الحركة ثورية الجموح، دينية الإيديولوجيا وعسكرية التفكير!؟ عندها حتماً يصبح تعريف السياسية “فن تحويل ما هو غير ممكن إلى ممكن بأي شكل من الأشكال”، وعندها تدخل المكيافيليّة إلى عمق تفكير هذه المجموعة التي تبرّر لها كل الوسائل من أجل الوصول إلى “أهدافها المقدّسة”.
لماذا هذه المقدّمة؟ لأننا لا يمكننا قراءة واقع “حزب الله” من أجل معرفة خياراته في المرحلة الراهنة، إن لم نفهم أساساً نمطية تفكير هذا الحزب. نعم، “نمطيّة” باعتبار أن هذا الحزب تشكّل أساساً على أفكار نمطيّة جاهزة معروفة المنشأ الثقافي والديني.
لذا، لا يمكن محاولة فهم ما يقوم به “حزب الله” اليوم، إستناداً إلى ما نراه صواباً أو أفكارنا ومنطلقاتنا الفكرية، علينا أن نرى الأمور من وجهة نظره لنفهم لماذا يتصرّف على هذا النحو وما هي وجهته ومراميه وخياراته المتاحة إنطلاقاً من نمطيّته الفكرية.
إن “حزب الله” اليوم يقف عند مفترق طرق أساسي بالنسبة له، كحزب أوكل إليه بشكل أساسي مهمّة تصدير الثورة الإسلامية في إيران إلى لبنان، لأننا اليوم دخلنا مرحلةً بدأ يلوح في أفق المنطقة السؤال، هل ستتمكن الجمهورية الإسلاميّة في إيران من الإستمرار بنشاطاتها العسكرية في المنطقة؟ وهل ستتمكّن هذه الجمهورية من الإستمرار تالياً بمشروعها لتصدير الثورة إلى “دول الطوق”؟
لماذا هذا السؤال؟ لأنه بكل بساطة نحن مقبلون على خلط أوراق كبير في المنطقة، مع المحادثات الأميركية ـ الإيرانيّة في ظل خارطة سياسية دولية لا تنفكّ يوماً بعد يوم تزيد تعقيداً، ولن تكون آخر التعقيدات المشكلة الدبلوماسية الفرنسيّة – الأميركيّة، التي لن تؤثر على لبنان بحسب المصادر العليمة إلا أنها حتماً تؤثر على ملف التفاوض مع إيران، باعتبار أن الأوروبيين معنيون كثيراً هذه المرّة بهذا الملف، ويدفعون بشدّة باتجاه الحوار بشأن أنشطة الجمهورية الإسلامية في إيران العسكرية في المنطقة، قبل البحث بملف مشروعها النووي. وتالياً، هذا الأمر إذا ما تحقق، يعني أن “حزب الله” يقف عند منعطف دقيق في مسيرته من أجل تصدير الثورة الإسلامية إلى لبنان. لماذا؟ لسبب بسيط وهو أن على إيران تبديل كل مخطّطها الذي رسمته منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها، بما يتعلّق بتصدير هذه الثورة. فهي اعتمدت سابقاً على تصديرها عبر تكوين مجموعات مسلّحة في كل البلدان، تابعة لها تعمل على القبض على أنفاس البلاد التي هي فيها، والسيطرة عليها عسكرياً أو سياسياً بالإستناد إلى القوة العسكرية. وإذا ما بدأ البحث في الأنشطة العسكرية في المنطقة هذا يعني فشل كل هذا المخطط.
فهل ستقتنع إيران أن ثورتها تقف عند حدود إقليم الأحواز أم أنها ستغيّر الطريقة المعتمدة من أجل تصدير الثورة؟ الجواب الواضح هو بالطبع، أنها لن تقف عند حدود الأحواز لسبب بسيط وهو أن هذه الثورة منطلقاتها دينيّة وتصديرها بالنسبة لأهلها، هو واجب مقدّس.
بالعودة إلى “حزب الله” في لبنان، من الطبيعي أن قيادة الحزب ليست بعيدة أبداً عن هذا الواقع، وبالتالي ستجد نفسها أولاً، وبما أن تركيبة الحزب الأساسية عسكرية، الأمر الذي يعطي الشؤون العسكرية أولويّة على أي شأن آخر، ستجد قيادة الحزب نفسها أمام خيار لا مفرّ منه، وهو التجهيز لأي حرب محتملة بشكل سريع وعلى كافة الصعد. وهذا ما نشهده من استيراد للنفط ومناورات هنا وهناك.
أما بالنسبة للسياسة التي لطالما “حزب الله” كان يجد حلول عقدها في جعبته العسكرية، ففي ظل الواقع الضبابي العسكري أمام الحزب يجد نفسه مضطراً ومن أجل تثبيت ثقله السياسي، للقبض على أنفاس الدولة من كل الأطراف، كي في حال ولأي سبب من الأسباب قرّرت الجمهورية الإسلامية في إيران تعديل مشروعها لتصدير الثورة في المنطقة، لن يجد نفسه متعلقاً على جانح صاروخ “رعد” من هنا أو “زلزال” من هناك.
الخيارات السياسية المتاحة أمام “حزب الله” سياسياً ليست بكثيرة.
الخيار الأول، من يدعم في الإنتخابات النيابية المقبلة؟ الجواب: “التيار الوطني الحر”، ولم يعد هذا الجواب سراً وإنما سيعمد الحزب إلى إعطاء أصواته في جميع الدوائر لـ”التيار”، كدائرة الشمال الثالثة مثلاً التي كان قد أعطاها في المرّة السابقة لـ”تيار المردة”، وهذا من أجل أن يحاول أن يعيده إلى مجلس النواب بأكبر عدد نواب ممكن لأنه الضمانة لنفوذه السياسي.
الخيار الثاني، من سيدعم في انتخابات رئاسة الجمهوريّة؟ الجواب: حتى الساعة ليس جبران باسيل، لأن “حزب الله” يدرك أن مسألة ترشيح باسيل انقضى عليها الزمن، وهذا ما دفع الأخير بأن يعلن في مقابلته الأخيرة أنه ليس مرشحاً أساساً إلى الرئاسة. من إذن؟ هنا بيت القصيد. هل لجبران باسيل مرشّح بديل عن نفسه يطرحه على “حزب الله”؟ وفي هذه الحال ماذا سيكون موقف الرئيس نبيه بري، والوزير سليمان فرنجيّة والوزير وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري؟ هنا تكمن أزمة الحزب الذي يرى ضبابيّة في مستقبله كأداة عسكرية إيرانية ومن الممكن أن يطلب منه أن يتحوّل إلى أداة سياسية. ما المشكلة؟ الجواب بسيط: إذا ما عاد حلفاء الحزب أكثريّة في مجلس النواب، عليه تأمين رئيس من أجل ضمان عهد لستة سنوات بيده. ولكن عليه في الوقت نفسه المحافظة على الأكثرية من أجل ضمان انتخابه أولاً، وعمل عهده ثانياً. وأي رئيس لا يوافق عليه باسيل يعني أن “التيار الوطني” بات في المعارضة، خصوصاً وأن وسائل الضغط عليه اليوم أصبحت قليلة، وبالتالي يلعب الحزب معهم بالترغيب أكثر منه بالضغط. والعكس صحيح أيضاً، لأن أي رئيس يوافق عليه باسيل، يعني أن الرباعي المذكور أعلاه سيصبح في المعارضة أي أنه لن يتأمّن انتخابه.
في الختام، خيارات الحزب عسكرياً: التعبئة، انتخابياً: “التيار” أما رئاسياً فهنا أم الخيارات وأخطرها، لذا لا يظنن أحداً أن “حزب الله” في وضع يُحسد عليه وإنما هو في أكثر فترة مأزومة شهدها في تاريخه، لأنه مأزوم على المستوى الإستراتيجي الوجودي وليس على أي مستوى آخر إن كان سياسي أو عسكري.