“إن مقاومة الظلم لا يحدّدها الإنتماء لدين أو عرق أو مذهب، بل تحدّدها طبيعة النفس البشرية التي تأبى الإستعباد وتسعى إلى الحريّة”. عبارةٌ تختصر قناعةً راسخةً لدى جيل بأكمله من الشباب في لبنان، الطامح للسيادة والحريّة والإستقلال، ولكن للأسف لم يصل بعد مشروع المقاومة اللبنانية إلى خواتيمه المرجوّة.
لقد تعلّمت باكراً جداً، ومنذ المراهقة، درساً مهماً في النضال والكفاح عموماً في سبيل أي قضيّة، وهو أن الحق لا يُعطى وإنما يُكتسب، لذا يجب أن لا ننتظرّ أن يهبنا مستبدٌّ أو طاغية أو فاسد حقّنا على طبق من فضّة إن قبعنا ساكتين عن حقّنا.
كما تعلّمت أيضاً أن بعض المقولات تهدف إلى تدجين النفس البشرية وتشجيعها على الجبن عبر إعطائها صوراً منطقيّة كـ”الإيد يللي ما فيك عليها بوسها وادعي عليها بالكسر”، فهذه المقولة كالعديد من أمثالها دجّنت الشعب بشكل من الأشكال وحوّلته إلى شعب نفعي يلهث وراء مصالحه الشخصيّة غير آبه بأية مصالح وطنيّة عليا معتبراً الوطن فندقاً فإذا ما قدّم له ما أراده من خدمات بقي فيه، وفي حال العكس تركه ومضى في سبيله غير آبه بشيء. بصراحة هذا ليس منطق المقاومين المنتفضين الثائرين المكافحين، هذا ليس منطق الوطنيين، الأحرار أبداً.
لقد تعلّمت أيضاً أن الجلوس على حافة النهر في انتظار جثّة العدوّ، هو نوع من أنواع الإنهزام والاستسلام، لا يشبه أبداً بني المقاومين المنتصرين، وجلّ ما يمكن أن يصل إليه من يقوم بهذا الأمر، هو أن يأتيه الحظ ليرى جثّة عدوّه في النهر كنتاج واضح لانتصار طرف آخر على عدّوه هذا، حتى لو كان هذا الطرف هو القدر أو سنّة الحياة، وفي هذه الحال الفرحة شخصيّة أنانيّة بحتة وليست فرحة انتصار مشروع محقّ أو قضيّة محقّة على عدو مستبدّ غاشم قاهر قاومه وكسره.
إنّ على المرء أن يُحدث بعض الضجيج حتى يصل إلى ما يريد، وهذه قاعدة عامة في النضال يجب ألاّ ننساها.
لماذا هذا الكلام؟
لأننا وبكل أسف نقف اليوم في لبنان أمام مشهد سياسي أقلّ ما يقال به أنه مقرف. فمن جهة، أكثريّة نيابيّة نواتها “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” تستأثر في البلاد، تعطّل ما تشاء تأليف الحكومة، لا تكترث لمآسي الناس ومهالكهم، همّها الوحيد هو تثبيت أواصر حكمها، كل طرف لسبب يعنيه. فـ”حزب الله” يريد إمساك الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران للورقة اللبنانيّة قبل جلوسها إلى طاولة المفاوضات النووية، فيما “التيار الوطني الحر” لا يرى له سبيلاً للإستمرار في الحياة السياسيّة سوى عبر إمساك الحكومة حتى انتهاء هذا العهد، علّه عبرها يمكن أن يعيد إنعاش بعض أطراف جثته السياسيّة الهامدة منذ انتفاضة الشعب اللبناني.
المؤسف أن هناك من يصرّ على إعطاء هذا الثنائي بشكل من الأشكال ما يريد، ويصرّ أيضاً على انتقاد من اتخذ قراراً بتحميل كل شخص مسؤولياته. فمن يريد الإستئثار بالبلاد ليحكمها منفرداً وليتحمل نتائج ذلك أمام الشعب والله والتاريخ. ولكن لا، هناك من يصرّ على مشاركة هذه الأكثريّة وتحمّل جزءٍ من مسؤوليّة أفعالها معها.
في المحصّلة، لا يتفاجأنّ أحد لما أنتجه هؤلاء من حكومة أو بما سيكون أداؤها، إذ فيها بعض الجيدين، ولكن الجميع يدرك أين سيكون قرارها. وفي القاعدة العامة الأسود دائماً ما يطغى على الأبيض لو كانا بنفس المقدار فكيف إن كان أصلاً أكبر حجماً منه.
من الجهّة الأخرى، وهناك البكاء وصرير الأسنان، مجموعات غير منضبطة أو منظمة، والأسوأ أنها غير قابلة للتنظيم. لماذا!؟ لثلاثة أسباب واضحة:
السبب الأول، إن النقمة الشعبيّة على السياسيين في لبنان مردّها إلى حقيقة مقولة هنري كسنجر: ” تسعون في المئة من السياسيين يعطون للعشرة الباقية منهم السمعة السيئة”، إلا أن هناك بعض الطامحين في لبنان، من صنف الفاشلين في السياسة والذين لم يتمكّنوا يوماً من فرض أنفسهم على الساحة السياسيّة بالنضال والكفاح والممارسة ويطمحون أن يُقدّم لهم الموقع على طبق من فضّة، هؤلاء كثر منهم ناشطون مدنيون، منهم رجال أعمال، منهم شخصيات سياسيّة مستقلّة، منهم رؤساء أحزاب، منهم من اشتروا أحزاباً، هؤلاء جميعاً وجدوا أنهم يستطيعون الإستفادة من القاعدة الكسنجرية هذه من أجل تدمير كل شيء ل لأنهم بكل بساطة غير أكفّاء. لم يجدوا من يفسّر لهم أن السياسية ليست مؤسسة تجاريّة أو شركة أو مصنع، ليتنطّحوا لقيادة المجتمع. وحتى لو كانوا ناجحين في حياتهم الخاصة هذا لا يعني أبداً أنهم سينجحون في السياسة. إن السياسة هي أم العلوم كلّها، فـ”السياسة هي علم الأحياء التطبيقي” و” في عصرنا لا يوجد شيء اسـمه بعيداً عن السياسة ، كل القضايا هي قضايا سياسية”.
السبب الثاني، هو أنه وبكل صراحة، شعبنا اللبناني بأغلبيته ولأسباب عدّة، ليس شعباً يقود الإنتفاضات وإنما ينتظر من يبادر إلى القيام بها من أجل مواكبته، وهذه مشكلة كبيرة. ماذا وإلاّ، ماذا ينتظر الشعب!؟ لماذا لا يبادر تلقائياً للنزول إلى الشارع للمطالبة بتغيير واقعهّ!؟ هل الشعب راض عما آلت إليه الأوضاع من ذلّ على محطات الوقود، وأمام الصيدليات والأفران والمستشفيات!؟ بالطبع لا، إلاّ أن هذا الشعب لا يبادر.
السبب الثالث، هو رفض الشعب اللبناني الإعتراف بخطأه وتصحيحه في الإنتخابات النيابيّة المقبلة، و لسنا هنا في صدد الكلام عن “كلن يعني كلّن” لأن هذا ما يريده أرباب السبب الأول، وإنما يجب على الشعب أن يقتنع أن “السياسة هي فن الممكن”، ويذهب لإختيار الممكن، ومن هو الأقرب إلى ما يطمح إليه بالطروحات والممارسة والثبات على الموقف والوضوح والرؤيا.
في محصّلة المشهد السياسيّ اللبناني اليوم، يمكن أن نقول إننا دخلنا فصلاً جديداً من فصول “الفيلم الأميركي الطويل” بشخصيات جديدة ووجوه جديدة يتلهّى بها الشعب اليوم معتبراً أن الواقع السياسي في البلاد قد تغيّر، إلا أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً وهي أن واقعنا السياسي اليوم أشد سوءاً من قبل، تحكمنا طبقة سياسيّة فاسدة، فيما الشعب انتقل من أحضان الناكر إلى النكير… والسلام