ثمّة فرق بين “رفع الدعم” وبين وقف مصرف لبنان “بيع الدولارات”. هذا الفرق بين المصطلحين يقع ضحيّته كثير من المتابعين في أغلب الأحيان، فيفترضون أنّ الأوّل، أي “رفع الدعم”، سيؤدّي حكماً إلى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء مجدّداً، نحو مستوياتٍ كبيرة.
لكنّ الحقيقة بخلاف ذلك، لأنّ رفع الدعم لا يعني امتناع مصرف لبنان عن بيع الدولارات.
“رفع الدعم” يعني أنّ سعر صرف دولار الاستيراد الذي يمدّ به مصرف لبنان المستوردين لن يكون إلاّ على السعر المحرّر، أي “السوق الموازي”، أو ربّما على سعر منصّة “صيرفة” الذي اقترب اليوم من سعر السوق بفارق قارب 500 ليرة لبنانية بعد تشكيل الحكومة، بل تطابق معه، ولا يُستبعد أن يتخطّاه اعتباراً من يوم الاثنين المقبل.
فآخر بيان نشره مصرف لبنان حول سعر المنصة كان في العاشر من الشهر الحالي، وأعلن فيه أنّ معدّل حجم التداول حدّد سعر الصرف بـ15500 ليرة لبنانية… وهو السعر نفسه الذي يجري تداوله لدى الصرّافين اليوم. هذا الرقم (15500 ليرة) يُفترض أن يكون سعر الدولارات التي سيواصل مصرف لبنان بيعها لمستوردي المحروقات، وقد أبدى “المركزي”، في أكثر من مناسبة، استعداده للاستمرار بهذا الأمر (بيع الدولار لمستوردي المحروقات)، لكن بشرط الالتزام بسعر “السوق الموازي”، وليس بـ3900 ليرة ولا بـ8000 ليرة التي ستتحمّل نصفها الخزينة بموجب الاتفاق الذي تمّ في بعبدا قبل نحو شهر. وهذا الشرط لن يشكّل مشكلة للمستوردين لأنّه سيوفّر لهم الدولارات، وما عليهم إلاّ تحمّل الفرق بالليرات اللبنانية (عمليّاً سيتحمّلها المواطن).
أمّا “وقف بيع الدولارات”، فيعني أنّ مصرف لبنان سيقول للمستوردين: “لا دولارات عندي بعد اليوم، وما عليكم إلاّ التوجّه إلى الصرّافين من أجل الحصول عليها”. في هذه الحالة سيلجأ مستوردو المحروقات إلى الصرّافين من أجل طلب شراء الدولار لاستيراد شحنات الوقود. يفترض البعض أنّ هذه الحالة ستترافق مع ارتفاع في سعر الصرف ربّما يُدخل البلاد مجدّداً في دوّامة “طلب” على الدولار لا تنتهي ترفع سعره.
نظرياً، هذا الأمر صحيح، لكنّ التمحيص والتدقيق في التفاصيل المحيطة بهذا الخيار تُظهر أنّه لن يكون مرتبطاً بهذه الجزئيّة فحسب، إذ ثمّة معطيات أخرى على الأرض قد تقلب النتيجة المتوقّعة، وقد لا تنعكس ارتفاعاً في سعر صرف الدولار الذي يبدو أنّ بعض المواطنين، بخلاف المنطق والمصلحة العامة، يتوقون إلى رؤيته يحلّق ويحلّق لتحقيق أرباح وهمية في حفنة من دولارات يكتنزونها.
وعليه، فإنّ ارتفاع سعر الصرف نتيجة وقف الدعم ليس نتيجة حتميّة، وذلك للاعتبارات التالية:
1- وجود حكومة جديدة، مصحوبة بهذا الكمّ من الدعم الدولي والإقليمي، سيترافق حكماً مع محاولات مدّ الحكومة ببعض المساعدات، أقلّه تلك التي يَعِد بها البنك الدولي اللبنانيين، سواء أكانت أموال البطاقة التمويلية أو أموال المشاريع الأخرى، لتُضاف إليها أيضاً الوعود الأوروبية والغربية التي أُغدق بها على لبنان مقابل التسريع في تشكيل حكومة، والشروع بالإصلاحات. هذه المساعدات لن تكون إلاّ بالعملة الصعبة، وستسمح لمصرف لبنان بتعزيز موجوداته بالدولار الأميركي وباليورو، وبأن يستمرّ في مدّ مستوردي المحروقات بالدولارات، خصوصاً أنّ مصلحته تتطلّب ذلك بقوّة من أجل “لمّ” الليرات التي فلشها هو في السوق منذ بداية الأزمة بشكل مخيف، وقد لاحظنا كيف استطاع “شحّ الليرة”، الذي اصطنعه المصرف المركزي في السوق أخيراً، أن يلجم سعر صرف الدولار على الرغم من صعوبة الظروف السياسية وانسداد الأفق.
2- تحرير سعر المحروقات سيرفع سعر البنزين إلى نحو 300 ألف ليرة للصفيحة الواحدة، ويُقال أيضاً إنّ سعر صفيحة المازوت سيصل إلى نحو 250 ألفاً. هذه الأرقام ستخفّف حكماً من حجم الاستهلاك، أكان استهلاك مادة البنزين للتنقّل بالسيّارات أو مادة المازوت للمولّدات نتيجة ارتفاع ساعات التغذية الكهربائية من مؤسسة كهرباء لبنان بعد وصول النفط العراقي الموعود والكهرباء الأردنية. ربطاً بهذا، سيُخنق الطلب وسينخفض إلى حدوده الدنيا، وذلك نتيجة عدم تمكّن الناس من تحمّل تكاليف التنقّل الباهظة، وهذا يعني في المحصّلة أنّ انخفاض الطلب على البنزين سيُقرّش انخفاضاً في الطلب على الدولار.
3- تحرير سعر المحروقات سينعكس زيادة في أسعار كلّ السلع من دون استثناء، وسيشمل حكماً الموادّ الاستهلاكية من مأكولات ولحوم وخضراوات، والإلكترونيات وأثاث المنازل والألبسة وغيرها… وذلك نتيجة ارتفاع تكاليف النقل. هذا بدوره سيلجم الطلب على السلع، وسيدفع الناس إلى الاقتصاد في استهلاكها لكلّ ما ذُكر أعلاه، ولن ينعكس إلاّ انخفاضاً في منسوب الطلب على الاستيراد الذي سينعكس بدوره هبوطاً في الطلب على الدولار. يُضاف إلى هذا كلّه أنّ حكومة فاعلة غير عاجزة كتلك المستقيلة، يُفترض بها أن تتّخذ قرارات تفضي إلى شدّ الأحزمة ومنع استيراد الكثير من السلع والكماليّات التي ستصبّ أيضاً في خانة وقف نزف الدولارات إلى الخارج.
4- تشير الإحصاءات إلى أنّ نحو 95% من اللبنانيين يتلقّون رواتبهم بالعملة الوطنية، وعلى الرغم من تآكل القدرة الشرائية لدى هؤلاء المواطنين، إلاّ أنّ جزءاً لا بأس به منهم لا يزال قادراً على توفير احتياجاته، ولو بصعوبة. الفضل في ذلك يعود إلى مخزون الدولارات الموجود في المنازل، الذي تقدّره بعض الجهات المصرفية بما بين 7 و10 مليارات دولار. تُضاف إليه المساعدات التي يتلقّاها بعض اللبنانيين من ذويهم المغتربين. وهذا سيُترجم بدوره إلى مزيد من عرض الدولارات في “السوق الموازي” من أجل استكمال دورة الحياة وشراء المحروقات التي ما عادت الرواتب بالليرة اللبنانية قادرة على سدّ أثمانها…
5- ناهيك عن منسوب التفاؤل الذي سيرتفع في نفوس الناس نتيجة تشكيل الحكومة. هذا التفاؤل بدأت ملامحه تظهر عند الصرّافين، الذين يؤكّدون أنّ حجم عرض الدولارات من المواطنين يدفع في اتجاه انخفاض سعر الصرف بنحو 3000 ليرة منذ الحديث الجدّيّ عن قرب ولادة الحكومة. وهذا العرض بات يفوق حجم ما يملكونه من الليرات اللبنانية التي أمست، مع نهاية هذا الأسبوع، عملة شبه مفقودة من السوق.