أظهر المسار الحكومي منذ التكليف الأول لمصطفى أديب، أن لا قدرة لأي فريق على إلغاء الآخر، بخلاف كل الانتظارات والاعتقادات والتوهمات الذهنية المرتبطة إما بإستقواء أو بعمق استراتيجي.
كما اظهر أن تهيؤات عزل مكوّن وازن، سياسي كان أم طائفي، في إستعادة لعزل المسيحيين منتصف السبعينات (شرارة اندلاع الحرب)، وهمٌ لا يستقيم لا منطقا ولا حتى ظنّا أو شهوة.
وأظهر أيضا أن الشهوة الى السلطة والتمركز الشديد فيها، تحت تأثير التعصب الطائفي، وبزعم الدفاع عن مكتسبات أُخرجت من سياقها المؤسساتي الى سياق مذهبي بحت، والدمج المتعمّد والمشبوه لتلك المكتسبات بمصير حزب أو شخص، ما هي إلا الوجه الآخر المحسّن والملطّف للممارسات البشعة لثنائي المافيا والميليشيا، حملها معه الى دولة الطائف، وعاث فيها وفيه فسادا هائلا غير مسبوق، سياسيا وإقتصاديا وماليا وحتى إجتماعيا. وصارت الرشى المالية الموجّه للطبقة الحاكمة وملحقاتها، والدافع الأساس للعمل السياسي، مما أدى حكما الى تعميم الإفساد في أضلع الدولة ومؤسساتها وطبقتها السياسية.
لكن المسار الحكومي أظهر أيضا مدى التأثير الخارجي في خيارات غالبية القوى السياسية والحزبية المحلية. هو تأثير متنقل بل متحوّل ومتغيّر، ارتضت تلك القوى الخضوع له صاغرة.
والإستشهادات كثيرة منذ أن تكوّن هذا البلد قبل آلاف السنين.
مع ذلك، تظل المرحلة السورية الأكثر حضورا في الذات والذهن والذاكرة الجمْعية، لقربها زمنيا ولتأثيرها في صنع الكثير من الزعامات والأتباع (ناقلي الولاء، المنقلبين لاحقا)، وللضراوة التي ميّزت تعاملها مع الطبقة السياسية، وللخضوع التام الذي إرتضته هذه الطبقة سبيلا للسطوة والنفوذ والتمويل من الخزينة العامة إستمرارا للممارسات الميليشيوية زمن الحرب، وعلى حساب اللبنانيين.
في اليومين الأخيرين، بلغ الضغط الخارجي أوجه. ربما كانت المرة الأولى التي يصل فيها الخارج الى هذا المستوى من الحدية الأقرب الى التقريع.
سمع المعنيون كلاما من نوع أنها الفرصة الأخيرة، وأن لا داعي بعد اليوم الى المماطلة والشطط والتذاكي. إما التاليف أو الإعتذار.
عاد باتريك دوريل الى المشهد بجولة من الإتصالات شملت المعنيين، فيما لم تكن خلية الأزمة الرئاسية الفرنسية على موقف واحد. إعترض أحد أعضائها على أداء دوريل، ولما لم يأخذ الرئيس ايمانويل ماكرون بالمبررات والذرائع، إشتدت التسريبات الضاغطة على نجيب ميقاتي من باب الصلاحيات والثلث وعدم جواز التنازل أمام ميشال عون وجبران باسيل. إستُخدمت الآلة الإعلامية نفسها والأسلوب ذاته، من الثلث الى المعطّل الى إستحالة ولادة حكومة تحظى بغطاء فرنسي- شيعي (إيراني)، وتفتقد الغطاء السني المحلي والعربي، وإستطرادا تُسلّم البلد الى حزب الله.
قفز دوريل فوق كل هذا التهويل المذهبي والسياسي. وإندفعت واشنطن لولادة حكومية حتمية، مع إفهام المعنيين بأن التطورات الإقليمية المتسارعة تحمل المنطقة تدريجيا الى مكان آخر مختلف عما لا يزال يأمله بعض اللبنانيين بالـwishful thinking الذي يتحكم بهم ويشلّ قدرتهم على فهم المتغيرات وإستيعابها، وأن على الجميع الإسترشاد بمغزى الغاز المصري والكهرباء الأردنية والـwaiver الأميركي، ومن ثم الإجتماع الرباعي في الأردن.
إستدرك ميقاتي كل هذه التطورات وتلقفها، فصار ما كان مستحيلا، سيلا متدفقا نزولا صوب سبيل الحكومة.
1-كُفّت يد نادي رؤساء الحكومة السابقين، وخفُت العويل والوعيد والشحن والعزل. نأى سعد الحريري وإبتعد (أو أُبعد) فؤاد السنيورة، فيما بارك تمام سلام.
2-لم تعد وزارة الإقتصاد العقدة الكأداء التي من دونها لا عيش للرئيس المكلف وتستحيل الولادة وتتداعى طاولة المفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية.
3-صار تبادل الوزارات، سنيا ومسيحيا، أمرا محمودا، بعدما كان مرذولا ومن المحرّمات.
4-وسقطت (مرحليا؟) خطط إسقاط العهد ومقاطعته سنيا وعزله وطنيا.
5-نُحّي جانبا التدقيق بنيّة ميشال عون السطو على ثلث معطّل بغرض تعويم جبران باسيل ومقايضة الحكومة برفع العقوبات الأميركية عنه.
هكذا صارت الحكومة الموعودة، المعلقة على خشبة السنة ونيف، واقعا أليما للبعض، وفرجا للكثيرين يؤمل أن يأتي لهم بقليل من الروح.
المصدر : VDLNEWS – انطوان الاسمر