يُخيّم على لبنان جوّ مشابه إلى حدٍّ ما لجوّ 1990. حينذاك، كان قائد الجيش “المتمرّد” العماد ميشال عون يقضي آخر أيامه على رأس الحكومة العسكرية في قصر بعبدا، فيما كانت حكومة أخرى “مدنية” تنشط في مكانٍ آخر، وكانت واشنطن ودمشق تحيكان الخيوط الأخيرة من إتفاق “إدارة الحالة اللبنانية”، وكان “حزب الله” يؤمّم المقاومة في الجنوب ويشرع برسم الخيوط الأولى لانتصار 2000، وكان ما كان بعدها.
الآن، أي في عام 2021، يقضي ميشال عون عامه الأخير بصفته رئيساً للجمهورية في قصر بعبدا، من دون حكومة أصيلة وفي ظلّ وجود رئيسَي حكومة، مستقيل ومكلّف، وثلاثة سابقين. ومن المتوقّع أن تشهد هذه المرحلة الكثير من الضوضاء السياسية، ما يعني أن خروجه المُفترض من قصر بعبدا العام المقبل سيواكَب بصخب عالٍ. واشنطن بدورها، ومع يقينها شبه التام بتبدّل التوازنات جراء ما حدث عقب انسحابها من أفغانستان، تعمل على دَوزَنة اللعبة الداخلية في لبنان وأماكن أخرى متفرّقة وفق قاعدة “التعويض”. في مكانٍ آخر تطمح إلى عقد سلسلة تفاهمات “غير مباشرة” مع “الأقوياء” من بوابة الطاقة، وعلى رأسهم النظام في سوريا طبعاً. في المقابل، شرع “حزب الله” بخطوة أولى نحو تأميم النفط عبر استجرار المازوت من إيران عن طريق سوريا، تقابلها محاولة “غاز” موازية يقوم بها الطرف الآخر عن طريق سوريا أيضاً. يعني ذلك أن الشام أضحت “عقدة الوصل” عند تقاطعات الطاقة.
عملياً، ومنذ أعوام، أنجز “حزب الله” “خطوطه الآمنة” في سوريا. قدّم مئات الشهداء على مذبح تثبيت المعادلة الراهنة هناك، بل وتدعيمها ودفعها أكثر صوب حالة “المقاومة” الساخنة في الميدان، وكانت الوجهة جنوب سوريا بالطبع، وتكبّد الثمن ذاته لأجل تأمين درب إمداده التي هدّدها المسلّحون سابقاً خاصة في نواحي حمص، والآن يوظّفها في تأمين مشروع “كسر الحصار” الأميركي المفروض على لبنان، الذي أولاً وآخراً يُعدّ المقصود منه بالدرجة الأولى، ما يدلّ على صوابية نظرة الحزب تجاه الخط. بدورها، تطمح دمشق إلى تثبيت حضورها في معادلة “كسر الحصار” تلك، من خلال خطوط الطاقة وإسقاط “قانون قيصر” بإجراءات على الأرض، بالإعتماد على منطق الضرورات الدولية. وهنا، يُعاود “خط الغاز” الظهور مجدّداً. سابقاً، أي عام 2011 كان من بين أسباب إندلاع الحرب في سوريا خط غاز “قطري” (رفضته دمشق) يمرّ عبر أراضيها ويصل إلى تركيا، واليوم في عام 2021 يعود المشروع، لكن من زاوية السلم على أن يكون النظام في الشام شريكاً مقرّراً فيه.
قبل أيام، أنجز الجيش السوري انتشاره في درعا البلد جنوب سوريا، أي البقعة التي يُفترض أن يمرّ منها خط الغاز العربي الذي يبدأ من بور سعيد في مصر ويمرّ عبر العقبة في الأردن ثم سوريا (عبر درعا)، ومنها يجتاز المناطق السورية نحو لبنان، ويتفرّع منه خط باتجاه بانياس، ثم أخيراً يحطّ في تركيا. جاء ذلك، في أعقاب حشود عسكرية سورية حاصرت “درعا البلد”، وعقب “ميني حرب” خاضها الجيش السوري مدعوماً من روسيا هناك، ولاحقاً تسوية مع المسلحين راعت مصالح النظام في “تصفير” الجبهة. سبقت ذلك حركة سياسية نشطة قامت على قاعدة “إخراج جنوب سوريا” من وضعية الحرب والقتال واللادولة، ولإعادة دور الحكومة الشرعية.
وفق “أجندة” خط الغاز نفسه، نشط الملك الأردني عبدالله الثاني جوالاً من بلد إلى آخر، وليس آخرها واشنطن، في محاولةٍ منه لإقناع الأخيرة بالإنضمام إلى “تفاهمات خط الغاز” الذي يمرّ في سوريا وإتاحة وصوله إلى لبنان، وإتاحة فرصة تأمين دعم دولي للدولة السورية للسيطرة على جنوب سوريا، سيّما درعا منه. والجميع يعلم مدى المصلحة الأردنية من وراء ذلك. ما يعنيه ذلك، أن إنهاء “حالة درعا” التي تُعدّ أساساً “مهد الثورة السورية”، تمّ باتفاق متعدّد الأطراف، سوري ـ روسي ـ إيراني ـ غربي، وبتغطية من جانب عربي مصري ـ أردني.
وفي حين كانت “أنابيب النفط” تخطو خطوةً باتجاه إعادة بنائها في سوريا، كان لبنان في حالته الرسمية متفرّجاً على التطوّرات هُناك كما درجت العادة ومُلحقاً بالإرادة الأميركية، رغم أنه “محور أساسي” سيستفيد من خط الغاز العربي. فصحيح أن “البنك الدولي” تبرّع مبدئياً بتغطية ثمن الغاز المصري المخصص لإنتاج الكهرباء، إلاّ أن الثمن السياسي لمصلحة سوريا لم يُسدّد بعد، وهذا يفترض أن يُصرف في الشام، والثمن السوري لا يكون هزيلاً في العادة.
استباقاً لذلك، قرأت “أنتينات” رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، التطورات الآتية، فأسرع إلى الأردن في زيارة خاطفة وغير معلنة. وقد فُهم أن جنبلاط يحاول التقاط إشارات، ولعلّه أستوعب هناك، أن النظام في دمشق في طريق عودته إلى النفوذ، وربما فهم أن ما خسره في لبنان سابقاً، سيعوّض في لبنان أيضاً لكن بأضعاف، فحاول أن يخفّف من الثمن المتوجّب تسديده، وفهم ما يطلبه السوري بموجب ذلك، والنأي بجماعته في لبنان عن أية ردّات فعل سلبية. كذلك ،فهم ما يتوجّب حصوله في السويداء ما دام أن “المشروع” يتم تطبيقه في جنوب سوريا.
وعملاً بالمواقف السابقة، يُعدّ جنبلاط متضرّراً، بدليل “هواجسه” التي يعبّر عنها بشكل يومي عن طريق التغريد حول “أنابيب النفط”. وعلى الأرجح، أيقن أن الطرف السوري سينال قطعةً من المسألة اللبنانية، وإلى حدٍ ما قد يعود “ضابطاً لإيقاع اللعبة الداخلية”، فتراجع “البَيك” وعمّم منطق “الهدوء” المتّبع لديه منذ مدة، ومثله يفعل رئيس مجلس النواب نبيه بري. مع ذلك، يبقي جنبلاط على توجّسه. شخص مثله يعرف جدّياً طرق مراقبة الخطوط ودروب مرورها، عليه حفظ نفسه، فغرّد داعياً إلى “معرفة شروط النظام السوري في مقابل إنجاح هذا المشروع الذي يمرّ عبر أراضيه، والمهم أن لا يكون هناك ثمن كبير علينا دفعه”.
إذاً، يُقرّ جنبلاط بأن ثمة ثمن يجب أن يُدفع، وأغلب الظن أن جزءاً من ذلك الثمن سيتكبّده هو شخصياً، وآخرون غيره طبعاً، وعلى الأرجح سيدلي جنبلاط باعتراف جديد على شاكلة “لحظات التخلّي” المعهودة على إثر سقوط 11 أيار وانتخابات 2009، وليس آخراً عام 2019 عقب ثورة 17 تشرين.
في العام 1990 دفع ميشال عون الثمن. في. 2021 من سيدفع الثمن؟ في النتيجة، لبنان خلال المرحلة الراهنة بان أمام عاصفة تغييرات كبيرة، وتبدّلات مختلفة بدءاً من الإنتخابات النيابية ولاحقاً الرئاسية. هنا، هل يعود إنتاج حكومة جديدة بالنفع أم لا؟ للبحث صلة.
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح