كتبت ميرا جزيني في “ليبانون فايلز”:
دومينو إنهيار الخدمات العامة التي سبق أن حذّر منه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وإقترح وضع آلية دولية لتفادي إضمحلال الأساسي منها، يواجهه اللبنانيون بالصبر والإبتكار، لكن أيضا بكثير من التسليم بالأمر الواقع ولمنعدمي الضمير خصوصاً. فمافيات الإحتكار والتجارة السوداء تصدّرت المشهد العام، وبات هناك نوع من الأغنياء الجدد نتيجة إنخراطهم في قطاعات خدمات إستُحدثت على عجل لتغطية عجز الدولة عن تأمين أبسطها. سابقاً، كان هناك أغنياء قطاعات مولّدات الأحياء والإنترنت غير الشرعي ومياه الصهاريج. أما اليوم فتفرّع هؤلاء نحو السوق السوداء للدواء والطحين والخبز والدولارات والليرات الطازجة والشيكات بالعملتين واللولار والبيرا، الى جانب السوق السوداء للمحروقات من بنزين ومازوت، وهي سوق واعدة لا شك نتيجة توقّع إستمرار هذه الأزمة متى حل فصل الشتاء وإزدادت الحاجة الى مازوت التدفئة في القرى والمدن على حد سواء. أما تجارة الطوابير فتزدهر بإضطّراد، لناحيَتي:
1- حجز أماكن أمام المحطات لقاء أتعاب مالية تتراوح بين 200 ألف و300 ألف ليرة، والتعرفة رهن تموضع السيارة ووقت الإنتظار المتوقّع.
2- السيارات الملغومة بخزانات باتت تتسع لمئات الليترات، وهذه ظاهرة تشهدها خصوصاً المناطق الممتدة بين البترون والمتن الشمالي، التي باتت محطاتها مقصد من يمتهن بيع البنزين في السوق السوداء عبر تجارة الغالونات المزدهرة هذه الأيام، بسعر 200 ألف لليترات العشرة، مع إشارة لافتة الى إنعدام الضمير لدى معظم تجار الغالونات، هؤلاء الذين باتوا
يمزجون بنزينهم بمواد كيمائية وسوائل، كمثل خلطها بالنعناع لإعطائها اللون الأخضر.
أما باكورة تجارة السوق السوداء وجديدها، فهي خدمة الـVIP التي بات يقدمها بعض أصحاب مولدات الأحياء لزبائنهم من أصحاب الأعمال على وجه الخصوص. والمتمثلة في دفع مبلغ 500 دولار طازجة شهرياً لقاء 20 أمبير كهرباء على مدار الساعة، تضاف إليها اتعاب التركيب ومد الخطوط، والتي تقارب كلفتها الـ 400 دولار طازجة، تدفع مرة واحدة عند توصيل الخدمة.
في هذا المشهد إستعادة للحربوق المتشاطر، لكن أيضا لمشاهد خَبِرها اللبنانيون زمن الحرب ومن ثم في زمن السلم المزيّف، يوم حلَّت المافيات والميليشيات محل الدولة ومؤسساتها، فأصبحت هي مرتع الخدمات العامة والمزود الأساسي لها، لتنتقل من بعدها الى رعاية أفرادها بالزبائنية التي اعتمدتها في توظيفات الإدارات والمؤسسات العامة.
الدولة تتفكك أوصالها، وتسلّم رقبة رعاياها الى تجار الأزمات، ويستعيد المافيويون أنفاسهم، وكذلك يفعل الأغنياء الجدد الذين ينصرفون تباعاً الى ترتيب طبقات أعمالهم، فيما البسطاء من اللبنانيين وأصحاب الحاجة يسلّمون أمرهم ومآلهم الى من بات يتحكّم برزقهم وغذائهم والقليل من الخدمات العامة المتوفرة لهم. ربما يحتاج هؤلاء الى تلزيم أمر ثورتهم الى طبقة جديدة من الثوار الأنقياء، لا أولئك الذين إنخرطوا باكراً في مشروع المافيا – الميليشيا، وباتوا ينافسون أهل الكار بما يغدق عليهم من أموال الخارج.