من المفترض أن يتم إطلاق المنصّة الالكترونيّة المخصّصة لتسجيل طلبات البطاقة التمويليّة غداً الثلاثاء، في مؤتمر صحافي مشترك يعقده وزيرا الاقتصاد راؤول نعمة والشؤون الاجتماعيّة رمزي المشرفيّة. ولهذه الغاية، سيتم اعتماد تطبيق Impact الذي يديره “التفتيش المركزي”، والذي استعمل في حملات التلقيح ضدّ جائحة كورونا. لكنّ حتّى اللحظة، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات تدل على أن البطاقة قد تكون “شيك بلا رصيد”، إلى أن يتم تأمين التمويل المطلوب لإطلاقها فعلاً. خصوصاً بعد أن وضع البنك الدولي شروط قاسية قد تحتاج إلى إعادة تصميم هذا المسار بأسره قبل أن يموّل البنك هذه البطاقة.
البنك الدولي تلقّى مراسلة من وزارة المال تطلب تقديم المساعدة التقنيّة لوزارة الاقتصاد والتجارة من أجل تطبيق قانون البطاقة التمويليّة. ليست المساعدة التقنيّة سوى تمهيد طبيعي لطلب تمويل البنك الدولي للمشروع لاحقاً، عبر مواءمة المشروع نفسه مع معايير وشروط البنك لهذا النوع من المشاريع، أو على الأقلّ عبر تلمّس طبيعة الشروط التي سيفرضها البنك الدولي لتمويل المشروع. مع العلم أنّ المشروع سيكلّف الدولة اللبنانيّة ما يقارب 556 مليون دولار، فيما تراهن حكومة تصريف الأعمال على تأمين نحو 295 مليون دولار لهذه الغاية من البنك الدولي، عبر إعادة تخصيص دولارات قرض إصلاح النقل العام، وتغيير وجهتها لتصبّ في تمويل البطاقة التمويليّة.
كانت المراسلة، بحدّ ذاتها، الخطوة الجدّيّة الأولى، وربّما الوحيدة، التي تحاول فعلاً حلّ معضلة تمويل البطاقة. فحتى اليوم، مرّ أكثر من شهر و23 يوماً على إقرار قانون البطاقة، دون أن تنجز حكومة تصريف الأعمال أيّ تقدّم على هذا الصعيد. أمّا كلّ ما جرى حتّى اللحظة، فهو وضع تصوّر يقضي بإعادة تخصيص إصلاح النقل العام لتمويل البطاقة، دون المبادرة إلى التفاوض مع البنك الدولي لهذه الغاية، فيما تخطّط الحكومة لتأمين باقي التمويل المطلوب من دولارات حقوق السحب الخاصّة التي سيحصل عليها لبنان من صندوق النقد في شهر أيلول.
على أيّ حال، جاء الردّ من المدير الإقليمي للشرق الأوسط وإفريقيا في البنك ساروج كومار جاه، طالباً إطار عمل مشدّد قبل المضيّ قدماً في تقديم الدعم التقني من البنك الدولي. النقطة الأهمّ في ردّ كومار جاه، كانت طلبه إخضاع البرنامج بأسره لرقابة خارجيّة مستقلّة، من أجل “كسب الصدقيّة أمام الشعب اللبناني”. وهذا الشرط سيعني ببساطة إجبار الدولة اللبنانيّة على وضع آليّات توزيع البطاقة، وإعداد قوائم المستفيدين تحت مراقبة طرف ثالث، من خارج مؤسسات الدولة، يضمن عدم توريط البرنامج في بازار المحسوبيّات والزبائنيّة السياسيّة، على أعتاب الانتخابات النيابيّة.
مع الإشارة إلى أنّ كومار جاه ذهب أبعد من ذلك، عبر طلب مشورة جميع “أصحاب المصلحة” في عمليّة تصميم وتطبيق مشروع البطاقة التمويليّة، في إشارة واضحة إلى ضرورة تريّث حكومة تصريف الأعمال وعدم التفرّد في وضع المعايير التي سيتمّ اعتمادها في تحديد الفئات المستفيدة من البطاقة. وهذا الشرط سيعني في المرحلة المقبلة ضرورة إعادة مراجعة شروط الاستفادة من البطاقة التمويليّة التي وضعتها لجنة العمل الوزاريّة المكلّفة بتطبيق المشروع، بالتشاور مع البنك الدولي والجهات الأخرى التي قد يصنّفها البنك من “أصحاب المصلحة” في المشروع.
أمّا النقطة الأصعب في شروط البنك الدولي، فكانت طلبه أن تكون عمليّة الإنفاق على البطاقة التمويليّة من ضمن موازنة عامّة للدولة ككلّ، وأن يكون هذا الإنفاق جزءاً من إطار عمل مالي على المدى المتوسّط. بمعنى آخر، لا يرغب البنك الدولي بأن يتمّ الإنفاق على البطاقة التمويليّة كمشروع مستقلّ ومنفصل عن سائر المعالجات التي ستنفق عليها الدولة اللبنانيّة خلال الفترة المقبلة. لكن عملياً لا يبدو أنّ الدولة اللبنانيّة تملك حتى اللحظة خطة ماليّة توضح كيفيّة تكامل هذه المعالجات على المدى المتوسّط، وهذا ما يتناقض مع طلب البنك الدولي. وتكمن الإشكاليّة الأهمّ في عدم امتلاك الدولة موازنةً يمكن الارتكاز عليها، لتتضمّن أبواب الإنفاق هذه، كما يطلب البنك.
ارتبطت سائر شروط البنك الدولي ببعض الأمور الإجرائيّة الأخرى، كنوعيّة فريق العمل الذي سيشرف على تطبيق خطة البطاقة التمويليّة، وضرورة حصر قنوات التواصل بلجنة الإشراف على المشروع، بحيث لا تجري أيّ اتصالات مع أطراف خارجيّة من دون المرور بهذه اللجنة. وقد بدا واضحاً أنّ البنك الدولي مدرك لطبيعية الفوضى التي تحكم عمل السلطة التنفيذيّة في الوقت الراهن، وتعدّد مراكز التواصل والتنسيق ما بين القصر الجمهوري وفرق العمل الوزاريّة والفرق الاستشاريّة داخل كلّ وزارة.
وأخيراً، طلب البنك الدولي أن يتكامل مشروع البطاقة التمويليّة مع برنامج الدعم المخصّص للأسر الأكثر فقراً، وأن يسير المشروعان بالتوازي وبشكل متناسق. سيتمّ تمويل البرنامج المخصّص للأسر الأكثر فقراً بقرض من البنك الدولي تبلغ قيمته 246 مليون دولار، لكنّ ثمّة إشكاليّات تحول دون تنفيذه، بعدما قام المجلس النيابي بإجراء تعديلات على اتفاق القرض لا تتماشى مع شروط تمويل البنك الدولي. ولذلك بات من الواضح أنّ البنك الدولي يشترط مواءمة المشروعين معاً وفق خطة واحدة متكاملة، بعد تذليل العقبات التي قد تحول دون تنفيذ أيّ من المشروعين.
كلّ ما سبق يقودنا إلى خلاصة واحدة: لن يكون الحصول على مال البنك الدولي لتمويل البطاقة نزهة سهلة بالنسبة إلى حكومة تصريف الأعمال. فالمساعدة التقنيّة التي طلبتها الحكومة فتحت باب التواصل لتأمين التمويل لاحقاً، وفتحت في الوقت نفسه على الحكومة باب الشروط المحكمة التي ستضيّق هامش المناورة على جميع الأحزاب السياسيّة، التي راهنت على إمكان استعمال هذا المشروع كبطاقة رشوة انتخابيّة خلال الربع الأخير من هذا العام. وفي كلّ الحالات، سيكون أمام الحكومة اليوم مسار طويل من التفاوض التقني لإعادة تصميم المشروع بأسره، بما يتماشى مع الشروط التي وضعها البنك الدولي.
أمّا الخشية الفعليّة فهي من البطء الذي يحكم اليوم عمل حكومة تصريف الأعمال في جميع الملفّات، بما فيها ملف البطاقة التمويليّة نفسه، والذي لا يبشّر بإمكان الدخول في ورشة ضخمة من النوع الذي يطلبه البنك الدولي. ولهذا السبب بالتحديد، قد يكون من الواقعي ترقّب إبقاء الملفّ على نار المراسلات، وتبادل الأفكار الهادئة التي قد لا تفضي إلى تطوّر عمليّ ملموس، بانتظار تشكيل الحكومة التي، إن أبصرت النور، قد تتمكّن من تسريع وتيرة المفاوضات مع البنك الدولي.
لكن إذا لم تبصر الحكومة الجديدة النور قريباً، وإذا استمرّت حكومة دياب بوتيرة البطء التي حكمت تعاملها مع ملف البطاقة التمويليّة، فإنّ نار الأزمة المعيشيّة ستكوي معظم الأسر اللبنانيّة، وخصوصاً أنّ كلّ هذا يتزامن مع الدخول في مرحلة رفع الدعم.