إلى حينه، لم ترد من “المجتمع الدولي” أية مساعدات عينية إلى العسكريين. ما منّت به الدول في مؤتمر باريس لدعم الجيش لم يقرّش بعد، بانتظار نتائج الزيارات واللقاءات الداخلية والخارجية المتتالية لقائد الجيش جوزاف عون، الذي يسعى بكل ما أوتي من عزم لإنعاش عسكرييه.
المساعدات التي تقدّمها مثلاً الولايات المتحدة، والتي “تتبجّح” سفيرتها دوروثي شيا، في الإعلان عنها دورياً، ما هي سوى “خُردة” مقارنة باحتياجات المؤسسة العسكرية! في الواقع، إذا كانت بطون العسكر خاوية، فلن تعود “الهامفي” أو الـ”أف – 16″ ولا حتى الصواريخ الذكية، بأي مردود يُذكر.
إذاً، لم تكن الوعود بدعم الجيش إلا سراباً. لقد ثبتَ أن بعض الدول تبيع المؤسسة العسكرية كلاماً معسولاً لأجل الإستهلاك الإعلامي والسياسي فقط، وليس أكثر من تحفيز، كمن يُشجّع فريقاً لكرة القدم ويُراهن عليه لكي يعطي مزيداً من تحقيق المكاسب لصالح الداعم. ما تفعله بعض الدول بالضبط لا يخرج عن محاولة لاستثمار الجيش، والإستثمار هنا يأتي بالمعنى العسكري في مواجهة المقاومة ليس إلاّ. بعض هذه الدول، وعلى الرغم من كل ما جرى ويجري، وما سمعته من كلام عسكري لبناني رافض لأي إملاء، إلى أنها لم تقتنع بعد أن الجيش ليس الطرف الصالح، أو الأصح لاتمام هذا المشروع، ولن يتحوّل لاحقاً إلى “جيش فيشي” مثلاً، وإن عُثر فيه على أصدقاء للغرب.
ثمة من يربط رفض الجيش الإنصياع لأي مشروع والمردود إلى قرار مُعلن من جانب قائده، وبين ما هو أشبه بحالة “العقاب الجماعي” التي يعيشها. من يتحدث عن “عقوبات” غير معلنة ترزح تحتها البلاد في قطاعات المحروقات والمصارف، وتقنيناً في الحاجيات الأساسية، عليه الإلتفات إلى حالة “عقوبات” مماثلة تُمارس عن سابق تصور وتصميم لإخضاع الجيش، أو دفعه إلى تلبية شروط ما، لقاء تأمين مساعدات ترتبط عادةً بدفع أثمان “غير مالية”.
عملياً، ولغاية هذا الوقت، الجيش يرفض تطبيق أي سيناريو متعلّق بأي إجراء داخلي يتجاوز حدود عمله. صحيح أنه، وحتى حينه، لم يثبت أن طُلب أي “تحرّك عسكري” تجاه نقاط تتبع للمقاومة، ومحال أن يُطرح ذلك في ظل وجود قيادة وضباط وعناصر على غير هدى مع هذه المطالب، لكنها وعلى نحو ما يظهر، تطلب من الجيش ممارسة المزيد من الحضور على الأرض، سيما في مناطق “الإشتباك” مع الإسرائيليين للحدّ من نفوذ “حزب الله” هناك. بلغ الأمر ذات مرة حداً، كأن تطلب السفارة الأميركية نقل ضابط من الجنوب إلى أي منطقة أخرى، تجرأ على قوة عسكرية إسرائيلية وقد ظهر ـ بالنسبة إلى السفارة – أنه وكثيرون غيره على تلازم واضح مع مسار المقاومة ويحملون نسبة العداء ذاتها التي يحملها “حزب الله” للإسرائيلي.
حادثة شويا مثلاً، ألحقت “أذىً” (إن صح الكلام) بالجيش. في الواقع، أظهرت الحادثة عمق حرص المؤسسة العسكرية على إنجاز المقاومة من الجنوب، وإتاحة الحركة لها بحرية. حادثة شوّيا، وعلى الصورة التي ظهر بها الجيش، سقطت كالصدمة على السفيرة الأميركية. صحيح أن “شيا” لم تكن تتوقع مثلاً أن يذهب الجيش إلى حدود رفع فوهات البنادق بوجه المقاومين، لكنها لم تكن تتوقّع أن ترى السلاح الأميركي ينقل مقاومين يقاتلون “إسرائيل”، معززين مكرّمين إلى نقطة عسكرية رسمية. دعك من البيان “الهميوني” معروف الحسب والنسب، والذي خرج في لحظة تقدير خاطئ مأسوف عليها ممن يفترض أنه حريص. إن التصرّف على الأرض كان أصدق من كل بيان وتعبير. المقاومون الذين وطّنت السفيرة نفسها على أن تجدهم يُزجّون في السجون، أو تدفع إلى انجرار الحزب لمواجهة مع الجيش لأجلهم، اكتشفت أنهم دخلوا المركز العسكري معزّزين مكرّمين واستُضيفوا بكوب شاي وطني، ولو كان الوقت يسمح لكانوا “تدوّشوا” وأخذوا قسطاً من النوم في حضرة قائد المركز! تُركوا دون السؤال في محضر أو ببيان، وتُركت السفيرة “تنقش” التقارير الذي يتّهم الجيش بالتغطية على أنشطة “حزب الله” ودعمه.
حادثة خلدة مثّلت نقطة أخرى. كانت أكثر من سفارة تمنّي النفس أن يتحوّل بيان الجيش الذي صدر في حينه وتوعّد “أي شخص يحمل السلاح بإطلاق النار عليه” إلى أمر واقع، فيقبل على إطلاق نار تجاه مسلحين “محسوبين” على الحزب. لم يحدث ذلك إطلاقاً، إنما حدث العكس. من اعتدى على موكب “شهيد الحزب” الذي كان يُشيّع بخلدة أضحى ضمن دائرة الملاحقة، وشيخهم اعتُقل، والمنطقة برمّتها أضحت في عهدة الجيش، والعصابة فكّكت تقريباً أو تكاد، بعدما انتُزعت الأرض وعامل المفاجأة منها وبعدما شاع أن الغطاء السياسي قد نُزع عنها.
كل ذلك إلى جانب موقع وموقف الجيش عبر الوفد العسكري – التقني الموكل ملف ترسيم الحدود الجنوبية وإصراره على التعديلات على المرسوم ٦٤٣٣ مخالفاً الرغبة الأميركية في السير ضمن “إتفاق الاطار” والخط ٢٣، محلّ عناية وقراءة حثيثة لدى السفارة الأميركية وأخواتها، وحكماً، نتائج ذلك كله مردودة عليه طبعاً. إلى حينه، ممنوع على الجيش أن يأكل إلا إذا قرّر مقاتلة ومقارعة الحزب أو الحدّ من نفوذه. الجيش هنا، مستعد لأن يجوع، لأن يعطش، ربما لأن يعرّى أو يستقلّ جنوده “الموتوسيكل” كحالة “حسان” في مسلسل “الضيعة ضايعة”، على أن يدشّن حرباً أهلية جديدة في لبنان أو أن ينقضّ على سلاح الحزب المُشَرّعَن ببيانات الحكومات المتعاقبة وذات التمثيل الشعبي والسياسي المعلوم.
بالنسبة إلى الأميركي وغيره، المسألة أبعد من توازنات يتجنّب الجيش “الدقّ” بها، إنها مسألة ثوابت. بالنسبة إليهم، ثبت باعتراف أكثر من مرجع سياسي ومركز دراسات، أن الجيش اللبناني ليس الأداة المثلى للحدّ من نفوذ وسيطرة “حزب الله” أو مقارعته. هنا، على الجيش إذاً “توديع” شهر العسل واستقبال ما يطبّق على لبنان من نماذج إخضاع. نحن وهو وهم أمام شهور طويلة من العقوبات… هنا، وبكل محبة، تقع على الجيش وقيادته مسؤولية البحث عن مصادر أخرى غير أميركية لاتخاذها منطلقات مساعدة عسكرية وتموينية، من دون تكبّد أي ثمن.
ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح