من المفترض ان يتوقف المراقبون والديبلوماسيون امام مضمون «النشرة التوجيهية» التي وجهّها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الى عسكريي الامن العام في عيدهم السادس والسبعين، وما تضمنته من توصيف قد يكون الأدق لما يجري، وبكلام يصدر عن مسؤول أمني في موقعه. وما كان لافتاً أنّها جاءت تحاكي في مضمونها التحذيرات الدولية من أكثر من مصدر. فهل هناك من يستوعب حجم المخاطر المقدّرة لتصويب البوصلة؟
ليس من المنطقي ان يتوقف المراقبون السياسيون والديبلوماسيون امام كلام يصدر عن مرجع أمني بحجم وموقع المدير العام للأمن العام، في بلد يعاني ما يعانيه من مسلسل الأزمات المتناسلة التي تهدّد مختلف وجوه حياة اللبنانيين والمقيمين على أرضه، وإجراء المقارنة مع التحذيرات والمواقف الدولية، بما تحمله من تنبيه وتحذير تجاوز الأصول التي تحكم آليات العمل الديبلوماسي بين الدول او تلك الصادرة عن هيئات أممية ومنظمات دولية واقليمية وحكومات تحاكي هموم أي شعب في العالم، في وقت يشكو هذا الشعب من سياسات المسؤولين فيها.
وعلى من يعترف بالخصوصية اللبنانية يمكنه ان يتوقف أمام مجموعة المواقف التي أطلقها المسؤولون اللبنانيون للتنويه بمواقف بعض رؤساء الدول الصديقة ومعهم مجموعة الحكومات والمؤسسات المانحة للبنان، ويتمنى ان يستوعبها القادة اللبنانيون ويعملون في هديها. وتعدادها ليس صعباً وفي مقدّمها ما سجّله أكثر من مرجع سياسي و نيابي وحكومي، فيما يستخف بها آخرون، وخصوصاً أولئك الذين باتوا يلعبون على حدّ السكين بين مظاهر الانفجار والإنفراج. وتحديداً أولئك الذين يمضون في خوض المعارك العبثية بالاستناد الى سيناريوهات لا يشاركهم فيها أحد. وكل ذلك يجري من دون اخذ كلفتها على اللبنانيين في الاعتبار، متجاهلين التحذيرات الدولية والأممية، في اعتبارها مجرد نصائح لا تلتقي في نتائجها وأهدافها مع بعض الطموحات الشخصية التي تجاوزت كل السقوف في الفترة الاخيرة. فكان مصير معظمها، بعد الترحيب بشكلها ومضمونها، في أرشيف البعض الشخصي وربما وُضعت اخرى في سلال المهملات.
وبالعودة الى مضمون النشرة التوجيهية للواء ابراهيم، فقد توقف المراقبون بدقّة امام التوصيف الذي قدّمه لحجم الأزمة في واقعها ومظاهرها. فقال بالفم الملآن، انّ لبنان يمرّ «في حالة انعدام وزن سياسي واقتصادي، وحتى أمني وعسكري، جراء الانهيار الكبير الذي ضرب الدولة وقوّض مؤسساتها وأنهك مواطنيها». وعليه، فإن كانت هذه قناعة أركان السلطة في مواقعهم المختلفة، هل يمكن ان يمضوا حيث هم في الاعتماد على وسائل وآليات لم تنتج حلاً لأي أزمة من الأزمات التي يعيشها اللبنانيون، والتي تراكمت على مرّ السنوات. فالإجماع متوافر كلامياً حول ضرورة وقف تناسلها وانعكاساتها، بعدما عمّت مختلف الوزارات والمؤسسات العامة وفقدان الخدمات الضرورية البديهية، والتي يتلمس اللبنانيون مظاهرها في موجة الإضرابات التي شملت مختلف المؤسسات العامة، ولجوء البعض منها الى دوام استثنائي نتيجة المصاعب التي تواجهها على المستوى المعيشي وتكلفة الانتقال، والبلاد لم تخرج بعد من تداعيات موجة كورونا، وما خلّفه تفجير المرفأ من تداعيات واسعة على مصير المؤسسات المدمّرة وسوق العمل وحجمه.
وإن توقف المراقبون امام مزيد من المعطيات التي لفت اليها اللواء ابراهيم في نشرته، فهو دعا عسكريي المديرية من مختلف المواقع، الى البقاء في جاهزية تامة لتنفيذ المهمات المنوطة بهم، والقيام بما يتوجب عليهم تجاه وطنهم وشعبهم… بما يتطلبه الأمر من عدم التهاون في تطبيق القانون وتنفيذ المهمات أو تراخٍ في تقديم الخدمات. وفي ذلك التفاتة مباشرة الى حجم المصاعب التي تواجهها القوى الامنية والعسكرية والحدّ من موجة الاستقالات التي باتت محط أنظار العالم، لترقّب التداعيات الخطيرة على تركيبتها ومعنويات رجالاتها وقدرتهم على الصمود في مواجهة الأزمة التي تجاوزت سقوفاً لم يتوقعها احد في يوم من الايام.
وإن تمعن المراقبون في العبارات التي تضمنتها النشرة، فهي تشكّل توصيفه لما تعانيه المؤسسات العسكرية والأمنية من حالات ما زالت ضمن ما هو متوقع، في ظلّ حجم الأزمة الكبرى التي تظلل البلاد والعباد، كما على مستوى حجم النكبات المتتالية التي لا يتحمّلها اي شعب في العالم، الذي اقترب من نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. كما لا يمكن تجاهل الإشارة الواضحة الى تفهّم ما يعانيه اللبنانيون، عسكريون ومدنيون، من «شظف العيش»، والتعهّد بالعمل للتخفيف من نتائجها على المستويات الاجتماعية والاستشفائية، على انّها من الأمانات الملقاة على الأعناق.
والى استعراض الواقع، دخلت النشرة التوجيهية في تناول ما هو متوقع، بلوغاً الى مرحلة التحذير من «انّ التأزّم الذي يمرّ فيه لبنان قد يطول» ولكن الواجب يدعو الى «الصمود والوقوف سدّاً منيعاً حماية لوطنكم وأهلكم وشعبكم»، مخافة ان يؤدي ذلك الى ما لا تُحمد عقباه «متى سقطت الدولة» فهي «ستقع على الجميع بلا استثناء، والكل سيُصبح في عين الفوضى وعلى خط التوتّرات». لكن ذلك لم يحل دون بث الأمل في نهاية النشرة، من خلال إلاشارة الى «انّ الوضع الراهن على مأسويته هو الى زوال»، معطوفة على الدعوة الى عدم اليأس والخوف والتخاذل، فـ «لبنان الدولة والوطن والرسالة باقٍ وسينتصر بإذن الله».
وبناءً على كل ما تقدّم، لا يمكن مقاربة هذه المعطيات على شفافيتها، من دون الإشارة الى انّ مثل هذه الملاحظات معطوفة على أي عوامل خارجية، فإنّها لا يمكن ان تُقاس بحجم الجهود الهزيلة لتجاوز بعض الأزمات التي ما زال اللبنانيون يمسكون بمفاتيح حلّها. فالحديث عن عملية تشكيل الحكومة خرج عن كل منطق في ظلّ التعقيدات التي لم تجد مخارج حل لها منذ عام وثمانية وعشرين يوماً رغم تعدّد المكلّفين تشكيل الحكومة التي لم تولد بعد، لتكون أولى الخطوات التي تعيد انتظام الحياة السياسية والعلاقات بين المؤسسات الدستورية.
ويجدر القول، انّه بات لزاماً العمل بالسرعة القصوى، وإنجاز ما هو مطلوب اليوم قبل الغد، من اجل وقف مسلسل الانهيارات التي لا يمكن وقفها ومعالجتها بمزيد من الخروقات لكل ما يقول به القانون والدستور بذريعة الظروف الاستثنائية التي باتت أمراً واقعاً. والأخطر، انّ هناك من بات يعتقد أنّه لم يعد هناك من حاجة الى حكومة ودستور وقانون وأنظمة تحكم اصول إدارة شؤون الدولة. وأنّ إيكالها الى هيئات وآليات إضافية ومُحدثة لم يلحظها النظام ولا الدستور، امرٌ مشين، مخافة ما يمكن ان تتركه من انعكاسات على المؤسسات الدستورية المفقودة، والتي تواجهها في وقت قريب. فما فرضته ظروف استثنائية لم تشكّل إقتناعاً شاملاً، وخصوصاً انّه كان يمكن تجنّبها، ولم يقم المعنيون حتى هذه اللحظة بما عليهم من حقوق وواجبات.