بعد كل ما مررنا ونمرّ به في لبنان من أزمات وتقهقر وذلّ وعَوَز وجوع وموت وتشرّد، إنه لمستغرب جداً أن الشعب اللبناني لم يكتشف بعد أن السياسة بمعناها العميق، أي إدارة المجتمع، موضوع أخطر بكثير من أن تُترَك إدارته لهذه الأكثرية النيابية. ألم يكتشف الناس بعد أنه لا قلب ولا إحساس ولا وجدان ولا ضمير ولا أخلاق ولا منطق ولا حسن دراية وإدارة لدى أربابها؟ إن كان الشعب لم يدرك ذلك بعد فهذه مصيبة، إلاّ أنه إذا كان مدركاً لهذا الأمر ولم يتحرّك لرفع نيرها وتسلّطها وحقدها وطمعها وفسادها وإجرامها عنه، عبر فرض انتخابات نيابيّة مبكرة في الشارع لتغييرها، فهذه لمصيبة أكبر وأكبر وأكبر.
إن هذه الأكثرية، وفي ظلّ كل ما نمرّ به، تعطّل تشكيل الحكومة منذ أكثر من سبعة أشهر. لماذا؟ من أجل حصّة من هنا، ووزير من هناك، ومن أجل ثلث ضامن لرئاسة النائب جبران باسيل مستقبَلاً، ووزير اللاعدالة لشهداء انفجار المرفأ من هناك.
أما الجهّة المقابلة، فليست أحسن حالاً أبداً، فالمعارضة لا تتوحّد لأسباب شبه مشابهة للتي سبقت، فهذا يعمل على تشويه صورة أكبر قوّة معارضة طمعاً بمقعد نيابي من هنا، وذاك يعمل على تهميش مجموعة معارضة من هناك طمعاً بمقعد نيابي آخر.
في المحصّلة، يبدو أننا نعيش في عصر اليأس شعبياً، فنحن كشعب، نترك من جهّة طغمة حاكمة كهذه تتحكّم بالبلاد والعباد، ولا نثور لكرامتنا وعزّتنا وحريّتنا وحقنا بالحياة الكريمة في وطننا، كما أننا إن ثرنا نترك حفنةً من المتسلّقين، الطامحين، الديماغوجيين، الشعبويين، يقودونا بشعاراتهم المعمّمة والسطحية، والتي جلّ ما تهدف إليه هو تدمير كل شيء تحت مبدأ “فرّق تَسُد”، من أجل أن تصل إلى مقعد نيابي، ولو كان ذلك على حساب إبقاء الطغمة الحاكمة على ما هي عليه تتحكّم بكل شيء. هؤلاء المتسلّقين، يعملون لتفريق الشعب عن القوى السياسية الوطنية، السيادية والشفافة، التي اختُبرت بالنار مرّات ومرّات، وخرجت منها ذهباً. كل هذا ونحن في انتظار أسبوع الحسم حكومياً، فعلاً إنها لمأساة وأزمة مجتمعيّة عميقة ومشكلة ثقة بالنفس كبيرة على الصعيد الشعبي وما بعدها مأساة.
نتلهى بتناتش “غالونات” البنزين على محطات الوقود، ونتلهى باللعب بالدولار في السوق السوداء لكسب حفنة من النقود الخاوية التي لم يعد لها أي قيمة… نتلهى في التسابق على الحصول على دواء أو رغيف خبز أو قارورة غاز ونترك الأساس، وهو أننا إذا ما أسقطنا كل هؤلاء، الطغمة الحاكمة والمتسلّقين معاً، سنكون قادرين على إحداث تغيير جذري في البلاد والعيش بكل كرامة واستقلال وحرية فيها.
لو كنا كشعب نريد فعلاً الحياة ونحبّها، علينا بادئ الأمر تحديد الذئاب التي تظهر بمظهر النعاج داخل مجتمعنا والقضاء عليها، ومن ثم الذهاب بصفوف نظيفة متراصّة لمواجهة الأكثرية الحاكمة اليوم إنتخابياً بصوت واحد ويد واحدة وهدف واحد، وهو لبنان الحر السيد المستقل، الجمهورية القوية التي لا دويلة فيها ولا فساد فيها ولا محسوبيات ولا هدر، وإنما مستقبل واعد لشعب يعد بالكثير من المقدّرات البشرية والذهنية.
لماذا هذا الكلام اليوم؟ لأنه يجب أن يخرج أحد ما من رتابة التحليل السياسي والمصادر والأوساط، ليعطي الناس حقيقة ما يجري فعلاً، وهو أننا نتلهى بتحليل سياستهم وتتبّع مصادرهم لمعرفة ما سيقومون به، في حين أن ما كان يجب أن نكون منشغلين به هو توحيد صفوفنا لإسقاطهم وسياساتهم ومصادرهم وأوساطهم.
نعم، هذا ما كان يجب أن نكون في طور إنجازه ، إلاّ أنه، وبما أننا لا نقوم بذلك لأننا سمحنا بأن يتغلغل بيننا طامحون، فجميع المصادر المقرّبة من ثنائي التكليف، تفيد بأن لقاء الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي برئيس الجمهورية ميشال عون في القصر الجمهوري اليوم هو حاسم لناحية التأليف، باعتبار أن ما أوحته المصادر، هو أن ميقاتي لا يمكنه الإستمرار أكثر من هذا الأسبوع في مسألة المماطلة باعتبار أن لعبة الوقت ليست لصالحه أبداً، فهو بخلاف الرئيس سعد الحريري لا يتمتّع بهذا السند السنّي الذي يمكن أن يتكئ عليه تحت شعارات الصلاحيات والفرض وما إلى هنالك، ومن جهة أخرى، هو لا يمكنه أيضاً الخروج من العباءة السنّية لتقديم تنازلات لا يرضى عنها نادي رؤساء الحكومات السابقين، لذا الحدود واضحة وهو بطبيعة الحال لا يريد إحراق نفسه، فإذا ما تمكّن هذا الأسبوع من انتزاع تراجع عوني عن المطالب الكبيرة كالثلث المعطّل وما إلى هنالك، والنفاذ بمرسوم التأليف إلى مجلس النواب، كان به، ماذا وإلاّ، فهو بطبيعة الحال لن يكون له خيار سوى الإعتذار.