كتب جاسم عجاقة في “الديار”:
رعى المرسوم الإشتراعي رقم ٧٣ تاريخ ٩-٩-١٩٨٣ عملية حيازة السلع والمواد والحاصلات والإتجار بها. ونصّت المادة الثالثة من هذا المرسوم على أنه «يجب على جميع محلات البيع بالمفرق… أن تُبيّن أسعار المواد والسلع والحاصلات وأجور الخدمات من أي نوع كانت بالعملة اللبنانية مع ذكر إسمها ونوعها بالضبط وفقا للمصطلحات التجارية ويجب ان تكتب بصورة جلية او تطبع بوضوح اسعار البضاعة…». أمّا المادة الرابعة عشرة فقد حدّدت نوع الإحتكار بـ «كل إتفاق يرمي للحد من المنافسة في إنتاج السلع والمواد والحاصلات او مشتراها او إستيرادها أو تصريفها، ويكون من شأنه تسهيل إرتفاع اسعارها إرتفاعًا مصطنعًا أو الحيلولة دون تخفيض هذه الأسعار، وكل إتفاق أو تكتل يتناول الخدمات بغية الحد من المنافسة في تأديتها ويكون من شأنه تسهيل إرتفاع بدلاتها بصورة مصطنعة أو الحيلولة دون تخفيض هذه البدلات، وكل عمل يرمي الى تجميع المواد أو السلع أو الحاصلات أو إخفائها بقصد رفع قيمتها أو بغلق مكاتبه أو مستودعاته لأسباب غير مشروعة بغية إجتناء ربح، لا يكون نتيجة طبيعية لقاعدة العرض والطلب». ويتعرّض المُخالف لهذه المادة إلى غرامة مالية «تزاد بنسبة عشر مرات الحدود الدنيا والقصوى للغرامات عملا بالقانون ٤٩٠\١٩٩٦ وبالسجن من ثلاثة أيام الى شهر أو بإحدى هاتين العقوبتين، وعند التكرار تضاعف العقوبة».
أما المواد ٦، ١٠، ١١، ١٢، ١٣، ١٥، ١٩، و٤٤ فقد أعطت لوزير الإقتصاد والتجارة صلاحيات تنظيم البيع وتحديد هوامش الربح وإعطاء الرخص… ولعل أهمّ هذه الصلاحيات تبقى تحديد هامش الربح (المادة السادسة) وحددت المادة السابعة من المرسوم الهامش الأقصى لنسب الأرباح في حال لم يحدده الوزير بضعف سعر الكلفة. ونصت المادة ١٦ على تجريم كل من «سبب أو يحاول أن يُسبب إرتفاعًا أو هبوطًا مُصطنعًا في أسعار المواد والسلع والحاصلات أو غيرها أو في المستندات أو الأسهم العامة أو الخاصة بإذاعة أخبار كاذبة أو غير صحيحة بين الجمهور».
منذ بدء الأزمة – عمليًا بعد النصف الثاني من تشرين الأول ٢٠١٩ – أخذ التجّار يتعاطون على أساس سعر صرف دولار السوق السوداء. هذه السوق التي وُلدت نتيجة إمتناع المصارف عن إعطاء الدولارات كرد على عمليات تهريب هذه الدولارات (خصوصًا عبر السحب من الصراف الآلي)، بدأت بالتعاظم مع الأزمة (بشكلٍ ملحوظ) بعد إعلان الدولة اللبنانية وقف دفع سندات اليوربوندز. حتى ذلك الوقت، كان مصرف لبنان يُموّل الإستيراد بكامل أنواعه على سعر صرف دولار ١٥٠٠ ليرة لبنانية. إلا أنه وبعد إعلان إفلاس الدولة اللبنانية، توقّف مصرف لبنان عن تأمين الدولارات وهو ما دفع حكومة الرئيس حسان دياب إلى الطلب إلى مصرف لبنان الإبقاء على الدعم مع رفع سعر الدولار الأميركي للمواد الغذائية (سلّة) إلى ٣٩٠٠ ليرة لبنانية مع المحافظة على سعر دولار للمحروقات والأدوية وغيرها على ١٥٠٠ ليرة.
أنذاك كان الدولار في السوق السوداء في حدود الأربعة ألاف ليرة لبنانية، إلا أن فشل المفاوضات مع صندوق النقد – بعد إعلان الإفلاس – دفع بدولار السوق السوداء إلى مستويات كبيرة وصلت في شهر تموز ٢٠٢٠ إلى ١٥ ألف ليرة لبنانية. في هذا الوقت، كان التجار يبيعون السلع والبضائع على سعر صرف السوق السوداء مُتحجّجين بما يُسمّى الـ replacement cost أو كلفة الإستبدال وبالتالي تخطّت نسبة الأرباح – في العديد من الأوقات – ما نصّ عليه المرسوم الإشتراعي ٧٣\٨٣.
في هذا الوقت تخّلى وزير الإقتصاد والتجارة عن واجبه بتحديد نسب الأرباح مُبرّرًا هذا الأمر بعدم تآكل رأس مال التجّار. لكن النتيجة كانت كارثية على الصعيد الإقتصادي حيث أن نقل الثروات من المستهلك (المواطن) إلى قلّة قليلة من التجار ضرب القدرة الشرائية للمواطن وفقّره وجعله رهينة المساعدات الإنسانية، والأهمّ أن هذا الأمر نفخ التضخّم بشكل مُصطنع سيكون معه من الصعب كسر الحلقة التضخمية إلا بُمكافحة رفع الأسعار هذا! فعلى سبيل المثال، أصدر وزير الإقتصاد والتجارة قرارًا طلب فيه من التجار خفض أسعارهم نتيجة إنخفاض الدولار من هامش ٢١ – ٢٢ ألف ليرة إلى هامش ١٨ – ١٩ ألف ليرة. إلا أن هيكلية الأسعار بقيت على ما هي عليه حيث إقتصرت التخفيضات على بعض السلع غير الأساسية. ومع ذلك لم نرَ أي تحرك ولا أية محاسبة.
الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ، فالقرارات الرسمية التي تُتخذ على صعيد الدعم الإجتماعي على الرغم من أهمّيتها (Crucial)، إلا أنها تزيد من التضخم الإصطناعي والذي عرّفناه على أنه “إرتفاع مُزمن بالأسعار ناتج عن خلل بآليات السوق (إحتكار وتهريب) ولكن أيضًا قد يكون في كثير من الأحيان نتيجة بعض القرارات الارتجالية (مثل رفع الأجور)” الذي يؤدي عند إقراره إلى زيادة التضخم بحيث تتبخر الزيادات كأنها لم تكن.
المُشكلة أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء والذي هو نتاج تلاعب بهدف تحقيق أرباح غير شرعية وإحتكار وتهريب (بالإضافة إلى أجندات سياسية)، رفع هيكلية الأسعار بشكل غير منطقي إذ أن هذا السعر لا يعكس بأي شكل من الأشكال عمل الإقتصاد الحقيقي – عنيت بذلك التبادل التجاري الهادف إلى خدمة السوق اللبناني مع شفافية كاملة على عملية التسعير.
مُخالفات التجار التي ترفع الأسعار عديدة وقد أتينا على ذكر البعض منها، إلا أن الأكيد أن هيكلية الأسعار لا يُمكنها العودة إلى مكانها الطبيعي – أي نتاج عرض وطلب حقيقي داخلي – إلا بتدخل من قبل السلطات الرسمية وأجهزتها الرقابية والأمنية والعسكرية والقضائية بهدف تطبيق القوانين المرعية الإجراء.
على هذا الصعيد نرى أنه من الملفت معرفة أن هناك عدّة أسعار لصرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية نذكر منها: السعر الرسمي ١٥٠٠ ليرة لبنانية (القروض بالدولار، والأدوية، والكهرباء، والإنترنت، والتلفون، والرسوم والضرائب – باستثناء الرسم الجمركي)، ٣٩٠٠ ليرة لبنانية (دولار المستشفيات، التأمين، سحب الودائع بالدولار، الدولار الجمركي…)، ٨٠٠٠ ليرة لبنانية (أسعار المحروقات)، سعر منصّة صيرفة، دولار الشيكات، وبالطبع سعر السوق السوداء. تعدّد الأسعار هذا مؤشر لمرض ضمني في الإقتصاد كمثل الطفر في جسم الإنسان، وبالتالي تعدد الأسعار هذا يؤدّي إلى تشوهات في هيكلية الأسعار ويجعلها غير خطّية (Non-linear) وبالتالي من الصعب صوغ سياسات إقتصادية قادرة على خفض الأسعار – محاربة التضخّم من دون إعادة توحيدها.
الوضع المآساوي للمواطن اللبناني سواء كان موظّفًا (قطاع خاص أو عام) أو عاملا يوميًا، يفرض على السلطة القيام بإجراء لمساعدته. وهنا يبرز إحتمالان:
الأول – تقديم دعم مالي (البطاقة التموينية) أو إجتماعي (الدعم كما هو الأن) بهدف مساعدة هذا المواطن على مواجهة جهنّم الأسعار. هذا الخيار ليس الأفضل في حال لبنان نظرًا إلى أن دعم المواطن مباشرة (بطاقة تموينية) أو غير مباشرة (دعم التجار)، يزيد من التضخم بحكم أن الإقتصاد أصبح نقدياً وبحكم إستمرار الإحتكار – العدو الأول للإقتصادات الحرّة – والتهريب. وإذا ما زدنا على هذه العوامل زيادة في الأجور و/أو البطاقة التموينية فإن الوضع سيصبح كارثياً. والجدير ذكره من ناحية أخرى أن رفع الأجور سيمنع لبنان من الإستفادة – الآنية – من إنخفاض الكلفة على الشركات والذي يُعتبر المُحفّز الأساسي في إستمرار بعض الأعمال وعدم ضياع الإستثمارات.
الثاني – ينص على محاربة أساس المشكلة وهو التضخم وذلك بأخذ سلسلة من الإجراءات التي تُزيل التضخم الإصطناعي والناتج عن الإحتكار، التهريب، والسياسات الخاطئة.
عمليًا ما يتوجب القيام به خطوات هادفة منها على سبيل المثال لا الحصر:
ضرب السوق السوداء بكل أشكالها بدءًا من التطبيقات مرورًا بالصيرفة غير الشرعية وصولا إلى سوق السلع والبضائع والخدمات (Real Market).
تحرير الإستيراد في كافة القطاعات وهو ما يؤدّي إلى رفع التنافسية وبالتالي ينعكس انخفاضاً في الأسعار.
إقرار قانون «تنافسية» يكون على الطريقة الأميركية بحيث يتمّ تقسيم أي شركة تتخطّى نسبة مُعينة من السوق إلى عدة أقسام (حالة مايكروسوفت في أواخر تسعينات القرن الماضي). وهذه الوسيلة هي من أفضل الوسائل لمحاربة الاحتكار وفرض الأسعار الاستنسابية من دون الرجوع إلى قاعدة العرض والطلب.
وقف التهريب بكل أشكاله على الحدود وذلك لإعادة السيطرة على الكتلة النقدية بالعملة الأجنبية، وهو ما تجاهله مشروع قانون الكابيتال كونترول.
توحيد كل الأسعار عند سعر منصة «صيرفة» على أن يترافق هذا الأمر مع إنتباه خاص للقروض المُعطاة بالدولار الأميركي للأفراد ذوي الدخل المحدود.
تفعيل الإستثمارات من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص على أن تُموّل هذه الإستثمارات من أموال من خارج لبنان مع تقديم التسهيلات الإدارية والقانونية.
تشكيل حكومة تُفاوض صندوق النقد وتضع خطّة يكون عمادها الإصلاحات الإقتصادية والمالية والنقدية.
إن لبنان قد وضع القدم الأولى في حلقة التضخّم المُفرط، وإذا بقي الأمر على ما هو عليه الآن فلن يكون بعد ذلك قادرًا على الخروج من أزمته مهما كانت الخطوات اللاحقة. والأصعب في الأمر أن الأجيال المستقبلية ستدّفع ثمن هذا التضخم لأنه في كل مرّة ستُحاول خفض الأسعار سينعكس الأمر إرتفاعًا في الدين العام. وإذا كان هناك من أمل من وقف خسائر المواطنين من خلال لجم التضخّم، فإن هذا الأمل لا بد أن يمرّ بالخطوات الآنفة الذكر.