“تحت عنوان “سلامة للمصارف: صادروا “الفريش دولار” واعطوني السوق السوداء”، نشر موقع المدن:
لا يمكن الفصل بين التعميم الأساسي 159، الذي أصدره مصرف لبنان خلال الأسبوع الماضي، وما يجري على مستوى اتجاه البلاد لتعويم سعر الصرف المعمول به لاستيراد السلع الأساسيّة. ثمة معادلة جديدة يريد حاكم مصرف لبنان إرساءها مع المصارف: إتركوا دولارات السوق السوداء لي لأمتصها عبر المنصّة لتمويل الاستيراد، وخذوا في المقابل الدولارات الطازجة الواردة إلى حسابات عملائكم، ورسملوا بها ميزانياتكم.
باختصار: لم يتدخّل الحاكم إزاء ظاهرة عمل المصارف في السوق السوداء، وما سببته من تضخّم وتدهور في سعر الصرف، إلا عندما بات بحاجة إلى امتصاص دولارات السوق السوداء بنفسه. أما ثمن المعادلة الجديدة، فسيدفعه لاحقاً أصحاب حسابات “الفريش دولار”.
المعادلة القديمة
المصارف تحتاج إلى الدولارات الطازجة لسداد التزاماتها في الخارج، وإعادة تكوين حساباتها لدى المصارف المراسلة. وهي عمدت طوال الفترة الماضية إلى امتصاص هذه الدولارات من السوق السوداء، إما عبر شرائها بشكل مباشر مقابل مبالغ بالليرة اللبنانيّة، أو عبر بيع الشيكات والدولارات المصرفيّة، بغياب أي رقابة أو تدخل من مصرف لبنان.
وبمعزل عن طريقة امتصاص المصارف لهذه الدولارات، كانت النتيجة واحدة: تدهور كبير في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وشح في كميّة الدولارات المتوفّرة لاستيراد السلع غير المدعومة. في الأصل، لا يمكن لأي أحد أن ينافس قوّة المصارف الشرائيّة في سوق الصرف. ومهما بلغ المعروض من الدولار في السوق، فالمصارف قادرة على امتصاصه والتسبب بالمزيد من التدهور في سعر صرف الليرة، بمجرّد طلب كميات إضافيّة من الدولار. أما حياد مصرف لبنان، فكان مرتبطاً بعدم اهتمام الحاكم بدولارات السوق السوداء، ولو أن هذه الظاهرة أدّت إلى تفاقم الضغوط المعيشيّة على جميع المقيمين، جراء ارتفاع سعر صرف الدولار وتضخم أسعار السلع المستوردة.
المنصّة تغيّر المعادلة
اليوم، اختلف الوضع تماماً. فمصرف لبنان أعلن التوقّف عن بيع شركات استيراد المحروقات الدولار المدعوم من احتياطاته. وهو ما يفرض إيجاد آليّة بديلة لبيع هذه الشركات الدولار غير المدعوم. إحالة الشركات إلى السوق السوداء بشكل مباشر غير ممكن من الناحية العمليّة، لعدم وجود مرجعيّة واضحة تحدد سعر هذه السوق. وهو ما يعني استحالة تسعير المحروقات بشكل يومي على أساس هذا السعر. البديل الموجود لدى مصرف لبنان ليس سوى منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، والتي يقتصر عملها اليوم على بيع الدولارات باتجاه واحد للمستوردين، من دون أن تتمكن من شراء الدولار عبر الصرافين، لكون سعرها يقل بنسبة كبيرة عن سعر السوق السوداء.
المطلوب إذاً تفعيل المنصّة، وجعلها أداة تداول قادرة على بيع وشراء الدولار بالاتجاهين من خلال الصرافين. علماً أن عدم تفعيلها على هذا النحو، واقتصار عملها على البيع للمستوردين فقط كما يجري اليوم، سيعني تحويلها إلى أداة تستنزف احتياطات المصرف المركزي، ما يفقد خطوة رفع الدعم جدواها. كل ذلك يفرض على مصرف لبنان مسألتين لتفعيل المنصّة: أن يواكب سعرُ صرف المنصّة سعرَ السوق الموازية في المرحلة المقبلة، لتجذب المنصّة دولارات السوق. وأن تتمكن المنصّة من استيعاب تداولات السوق السوداء الخارجة عن سيطرة مصرف لبنان، لتصبح هي أداة تداول الدولار الأساسيّة لدى الصرافين.
باختصار، على المنصّة أن تمتص دولارات السوق السوداء. ولهذا السبب، تغيّرت المعادلة القديمة جذرياً، وبات حاكم مصرف لبنان مهتماً الآن بلجم عمليات شراء المصارف لدولارات السوق السوداء، لا بل بوقفها نهائيّاً، لترك دولارات هذه السوق لمنصّته. هذه المسألة تفسّر صدور التعميم 159 في هذه اللحظة بالذات، والذي منع المصارف من شراء الدولار من السوق الموازي، أي السوق السوداء، أو بيع وشراء الشيكات المصرفيّة بالعملات الأجنبيّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وبمجرّد تطبيق هذا التعميم، ستكون المصارف قد خرجت كمشترٍ للدولار من السوق السوداء.
المقايضة: خذوا دولارات حسابات “الفريش”
حرمان المصارف من الولوج إلى دولارات السوق السوداء انطوى على مقايضة قاتلة بحق عملاء المصارف. ففي المقابل، سمح التعميم للمصارف بشراء دولارات الحسابات الجديدة، أي حسابات “الفريش دولار” التي مازال أصحابها يستفيدون من إمكانيّة سحب أموالهم بالدولار النقدي، على أن يتقاضى عملاء المصارف من أصحاب هذه الحسابات قيمة الدولارات بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر المنصّة. أما أخطر ما في الموضوع، فهو أن التعميم لم يشترط موافقة العميل للقيام بهذا النوع من العمليات، ما سيفتح تلقائياً باب قيام المصارف بفرض مصادرة هذه الدولارات ودفع قيمتها بالليرة، تحت حجج متنوّعة، منها عدم توفّر الدولار النقدي للسحوبات على سبيل المثال.
الثغرة التي ستسمح بمصادرة دولارات المودعين الطازجة من قبل المصارف، يمكن استعمالها –وفقاً للتعميم نفسه- لتحسين نسب السيولة، أو القيام باستثمارات متوسطة أو طويلة الأجل لحساب المصارف نفسها. كما يسمح التعميم للمصارف باستخدام هذه الأموال لسداد قيمة التزاماتها في الخارج، المترتبة لمصلحة المصارف المراسلة. بمعنى آخر، سيكون بإمكان النظام المصرفي أن يعيد تعويم حساباته ورساميله، على حساب أصحاب الودائع الطازجة، وعلى حساب الدولارات الجديدة الواردة إلى النظام المصرفي.
علماً أن لائحة المودعين الذي يتضررون من خطوة كهذة تطول وتشمل عدداً كبيراً من الجمعيات والشركات التي ما زالت تستفيد من تحويلات واردة من الخارج بالعملات الأجنبيّة، بالإضافة إلى موظفي الجمعيات والمؤسسات الدوليّة الذين مازالوا يتقاضون رواتبهم بالدولار الطازج.
رهانات أخرى
في الوقت الحالي، يملك مصرف لبنان رهانات أخرى لتحصيل ما يمكن تحصيله من دولارات، تسمح له بالتدخل في سوق صرف الدولار، من خلال المنصّة نفسها. فحتى اللحظة، لم يتم وضع تصوّر لكيفيّة التصرّف بالدولارات التي سترد إلى لبنان من صندوق النقد خلال شهر أيلول، من ضمن عمليّة تخصيص حقوق السحب الخاصّة التي ستستفيد منها جميع الدول الأعضاء في الصندوق. مع العلم أن قيمة السيولة التي سيتفيد منها لبنان بالتحديد ستقارب 860 مليون دولار. ما يراهن عليه مصرف لبنان هنا، هو تحديداً الاستفادة من هذه الدولارات لتعويم احتياطاته القابلة للاستخدام، في مقابل منح الدولة قيمة موازية من السيولة بالليرة اللبنانية، وفق سعر صرف معيّن. وهذه السيولة التي سيحصل عليها المصرف المركزي، ستسمح له بامتلاك بعض المرونة لتمويل تدخله في عمليات المنصّة، لضبط سعر الصرف، أو تمويل استيراد بعض السلع التي لم يتم رفع الدعم عنها، كالطحين.
الأيام المقبلة حاسمة
على أي حال، من المفترض أن تحمل الأيام المقبلة الإجابات الحاسمة حول قدرة مصرف لبنان على إنجاح مشروع المنصّة كوسيلة للتداول بالدولار في السوق، وكأداة لتمويل الاستيراد، خصوصاً أن قرار التوقّف عن الإنفاق من الاحتياطات قد اتخذ ولا رجعة عنه. مع الإشارة إلى أن انتقال المنصّة من عمليات بيع الدولار من جهة مصرف لبنان، إلى عمليات التداول بيعاً وشراءً، سيحتاج إلى تعديل تدريجي في سعر الصرف المعتمد للمنصّة، ليواكب سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، ولتتمكن المنصّة من استقطاب عمليات بيع الدولار.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا هي أن جميع هذه الخطط والقرارات ما زالت تتم بتصوّرات خاصّة يضعها المصرف المركزي منفرداً، تماماً كجميع الإجراءات التي تم اتخاذها منذ أكثر من سنة بغياب أي حكومة تمتلك صلاحيات مكتملة. وبالتالي، وبمعزل عن احتمالات نجاح أو فشل هذه الخطط، فمن الأكيد أنها ما زالت بعيدة عن التكامل مع خطة تستهدف الخروج من مرحلة الانهيار المالي الذي تعيشه البلاد. خصوصاً أن هذا النوع من الخطط لا يمكن أن يتم بالسياسات النقديّة وحدها، بمعزل عن الخطوات التصحيحيّة التي يفترض أن تعمل عليها السلطة التنفيذيّة.