“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
تجاوز الأمين العام ل”حزب الله ” السيد حسن نصرالله المألوف. لم يكن خطاب “يوم عاشوراء” عادياً. لقد مثّل خروجاً عن النص السياسي الذي اعتمده الحزب ويُمكن تصنيفه من ضمن “الخطابات التحوليّة”. إذاً نحن أمام انتقال نوعي أتمّه الحزب ويُطبّق فروضه بعناية. المسألة تتجاوز دخول سفينة إيرانية محمّلة بالنفط المياه الإقليمية اللبنانية، المسألة معقّدة تتجاوز مسألة الحاجة إلى سفينة وقود “مطلوبة بإلحاح”. مسألةٌ تطال تهديد العناصر الحيوية التي يعتقد الأميركي أنها “مصادر قوته” وتتيح له التحكّم بالرقبة اللبنانية.
صحيح أن القرار المتخذ لدى الحزب بـ”كسر الحصار” عن لبنان لم يكن وليد ساعة “خطاب العاشر” إنما سبقه بفترة ليست قصيرة. حتى قضية الإعلان عن النية لـ”استجرار النفط” من إيران، كانت مسألة باعتقاد الأميركيين وغيرهم، ذات طابع سياسي طالما أنها لم تقترن بإجراءات عملية، ولن تتجاوز إطار المناورة على نية الحصول على تنازلات تصبّ في خدمة “تخفيف الحصار”. ما أحدثه السيد نصرالله بإعلانه “تحرّك السفينة” صوب لبنان كان بمثابة القنبلة التي طارت شظاياها بأكثر من اتجاه وأصابت أكثر من جهة.
إستبيان هذه التحولات يمكن قراءتها ابتداءً من ردّ الفعل الأميركي عليها. بطريقة أو بأخرى لا تتصرف “عوكر” بمطلق نفسها إنما بإشارة من المشغّل في واشنطن. لم يكن مألوفاً قط أن تُبادر السفارة الأميركية لردّ فعل على فعل أتمّه خصم سياسي ما، أقلّه ذلك لم يكن معهوداً في لبنان. في العادة، دأب “خصوم” واشنطن على اعتماد سياسة الدفاع. بفعلة السفينة، اتضح أن ثمة عوامل نوعية لم تكن معهودة إنما أُوجدت حديثاً نتيجة قرار بالمواجهة، أُدخلت أو تم إدخالها على أسلوب العمل، فأضحى هجومياً بشكلٍ ظاهر. ما كان على “عوكر” ألا أن تُدافع إذاً. ما كان محظوراً لدى واشنطن أصبح وفي ظرف ساعة مُباحاً. لم تعد هذه الأخيرة تُمانع اعتماد لبنان على الرئة السورية. سبق وأن بُحّت أصوات لبنانية لقاء نيل “استثناء أميركي” لاستجرار الكهرباء من دمشق لكن من دون جدوى. سقط محظور “قانون قيصر”. في ساعة، تراجعت السفيرة الأميركية دوروثي شيا كيلومترات إلى الخلف.
السؤال: ما هو هذا الأمر “الجلل” الذي دفع الأميركيين صوب إصدار الأوامر بتفعيل “خطة طوارئ” في مواجهة السيد ومحاولة التخفيف من ضغوطاتهم؟
بداية، توجب الإشارة إلى ما يمكن أن يُصطلح على تسميته “نظام الرعاية” في لبنان وهو عبارة عن “منظومة” إدارة التفاصيل الحيوية ذات الصلة بالشعب اللبناني واحتياجاته، أي المنظومة التي وُجدت منذ ما بعد الإستقلال. يُسمّى عادة نظام الإمتيازات ويمكن تعريفه بنظام الإحتكارات. تمثل هذه، مجموعة من الخدمات التي حُصرت – بحكم التركيبة اللبنانية – بطائفتين تفرّعت منهما شركات “محتكرة للإمتياز” كانت عادةً تشهد على تحولات ولم تكن ثابتة، ترعاهم الزعامات السياسية والدينية التقليدية. وتتوزع هذه الإحتكارات بين محروقات ودواء وإلى حدٍّ ما غذاء، تمثّل عملياً شرايين حيوية وعصب البلاد، وغالباً كانت الشركات الراعية محطّ نفوذ لدى الغرب وأدوات طيّعة أثبتت تأثيرها. ما جرى يوم العاشر من محرم المنصرم، كان كناية عن محاولة “أكثر جرأة” من قبل “حزب الله” لضرب هذا “السيستم” وهو الفعل الذي أدى إلى تأجيج مجموعة الرعاة في النادي السياسي ومن خلفهم.
تنظر هذه المجموعة إلى محاولة “حزب الله” استيراد النفط الإيراني من خارج “المنظومة” بطريقة أخرى. أنها محاولة لإسقاط “النظم” التي يعتقد البعض أنها قضايا مسلّم بها. ما يزيد الأمر تعقيداً، أن الحزب أتمّ سلفاً مجموعة عناصر أتت في الإطار نفسه: استيراد الدواء والغذاء، يطال تأثيرها المصالح الحيوية، وتحديداً النفط بما يمثلّه من عمود فقري للإقتصاد. وفيما لو نجح الحزب وأتمّ نجاحه ووزع الفوائد لاحقاً، لن يقتصر أمر “الكسر” للإحتكارات، على مسألة النفط، إنما قد يتمدد إلى تفاصيل ومفاصل أخرى، وقد يتيح للآخرين دخول غمار هذا العالم ، ما يعني تقليصاً حكمياً لحضور هذه الأدوات الإحتكارية “الكارتيلات” في يد جهة (أو جهات) سياسية محددة و توزيعاً لعناصر القوة التي ستفقد بهذه الحالة العنصر المركزي وتتلاشى قوة تحكّمه باتجاه مجموعات أو قوى أخرى منافسة تصبح شريكة حكماً.
الأميركي، لن يقبل بطبيعة الحال أن يترك الأمور تسير في هذا الإتجاه ومن دون تدخل. هو يُدرك أن خسارته لامتياز التحكّم بالسوق اللبناني وتفاصيله وحاجاته الحيوية ستنعكس حكماً على وضعيته السياسية في الداخل وسطوته وحضوره، وسيظهر انعكاسها على موضوع “الحصار” الذي سيكون عرضةً لتفريغه من عناصر قوته، وهو الصلب الذي يخشاه الأميركي بالتحديد، لذلك قد نشهد على محاولات مواجهة متعددة وعلى كافة الأصعدة، وعلى ما يظهر حالياً قد يردّ الأميركي باستخدام نفس السلاح، أي تعميم ظروف المساعدات والتخفيف من إجراءاته من قبيل مدّ لبنان بحاجاته الأساسية كالكهرباء مثلاً، ولو وقتياً.
السؤال هنا: هل أن الحزب قد اتخذ قراراً كاملاً بـ”كسر السيستم” الموجود وإرساء وتكريس نظام بديل أكثر عدالة وشمولية، أم أن قراره يقتصر على إمداد الداخل بعلاجات ظرفية حتى يتسنّى له النهوض والإستمرار؟ الثابت في كل ما تقدم، ان “حزب الله” يدرك “الكلفة” المترتّبة عن إدخال تغيير “مطلوب” في نظام “المنافع” اللبنانية