بعد أن تسلّم جو بايدن مقاليد الرئاسة الأميركية في العشرين من شهر كانون الثاني الماضي، زار وزارة الخارجية في مطلع شباط وألقى خطاباً حدّد فيه معالم سياسته الخارجية. في هذا الخطاب، ركّز بايدن على علاقات بلاده المعقّدة مع كل من روسيا والصين، وشدّد على رغبته في إعادة تعزيز العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والإتحاد الأوروبي، وأشار الى العلاقات مع عدد من الدول، من دون ذكر الشرق الأوسط، باستثناء حرب اليمن.
معروف أنّ إسرائيل تأتي في طليعة اهتمامات الولايات المتحدة في سياستها الشرق-أوسطية، وقد فسّر المراقبون عدم ذكر الشرق الأوسط وإسرائيل بالذات في خطاب بايدن، على أنّ ذلك عائد الى انّ اسرائيل كانت، في تلك الفترة، في وضع مريح، بعد أنّ أقامت بعض الدول العربية علاقات ديبلوماسية معها، بتشجيع قوي من الرئيس السابق دونالد ترامب، ولأنّ علاقة بايدن مع نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، ليست على ما يرام.
بعد ذلك بأيام، وفي شهادته أمام الكونغرس، تحدث وزير الخارجية أنتوني بلينكن ببعض التفصيل عن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، مؤكّداً إعادة علاقات الولايات المتحدة مع الفلسطينيين والتغييرات التي ستحصل في السياسة الشرق-أوسطية التي أرساها ترامب. وقد كان في ذلك رسالة على أنّ السياسة الأميركية تجاه هذه المنطقة ليست من أولويات البيت الأبيض، بل ستُحدّد على مستوى وزارة الخارجية.
كان واضحاً من خطاب بايدن ومن خطاب وزير خارجيته، أنّ لبنان ليس من أولويات السياسة الخارجية الأميركية، سواء على صعيد البيت الأبيض، أو على صعيد وزارة الخارجية، ومعروف أنّ علاقة الولايات المتحدة مع هذه المنطقة تمرّ عبر ما سيتمّ بالنسبة الى الإتفاق النووي الإيراني.
ولكن الحرب التي وقعت منذ شهرين بين إسرائيل وقطاع غزة على إثر ما حصل في الشيخ جراح، أرغمت بايدن على إعادة حساباته، فخصّص وقتاً وجهداً كبيرين لتحقيق وقف إطلاق النار بين الفريقين. كما أنّ الإتصالات التي أجرتها منظمات لبنانية-أميركية مع الإدارة، وخصوصاً مع وزارة الخارجية وكذلك مع الكونغرس، أعادت لبنان إلى اهتمامات السياسة الخارجية الأميركية. فهنالك أمور تدلّ الى احتمال وضع لبنان على لائحة الإهتمامات الخارجية الأميركية من جهة، ولكن هنالك، من جهة ثانية، أموراً معاكسة قد تحول دون السماح لإدارة بايدن بإيلاء الموضوع اللبناني الأهمية التي يستحقها.
أولاً: الأمور التي تدلّ الى الإهتمام الأميركي بلبنان:
تظهر هذه الأمور في الكونغرس، وفي الإعلام وفي الإدارة.
– يوجد في الكونغرس عدد، وإن كان قليلاً، من النواب اللبنانيي الأصل، وهم يشكّلون، مع زملاء لهم من مجلسي النواب والشيوخ، فريق عمل يتابع الأوضاع في لبنان ويطالب الإدارة بإيلاء الشأن اللبناني الإهتمام اللازم.
يقوم أيضاً ممثلون لمنظمات لبنانية-أميركية لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ واللجان المتفرعة منها، بالإدلاء بشهاداتهم المؤيّدة للبنان، ومطالبين هذه اللجان بالتدخّل لدى الإدارة لتقديم المساعدة اللازمة له في هذه الظروف الصعبة. سنتحدث أدناه ببعض التفصيل عن هذه المنظمات ونشاطاتها.
كذلك صدر عن لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ التابع للكونغرس، في الرابع من آب، قرار يعلن التضامن مع شعب لبنان لمناسبة ذكرى تفجير مرفأ بيروت، ويحضّ المسؤولين اللبنانيين على إنجاز التحقيق بشفافية حول هذا التفجير، ويدعم مطالبة الشعب اللبناني بوضع حدّ للفساد المتفشي داخل الحكومة. كما يثني القرار على الجهود الاوروبية والأميركية الآيلة الى المساعدات الإنسانية المقدّمة للشعب اللبناني مباشرة، وعلى التعاون في ما يعود الى فرض العقوبات. مع العلم انّ مثل هذه القرارات لا تقترن بالضرورة بأي عمل فعلي، سياسياً كان أو مادياً، إلّا أنّها تعبّر عن اهتمام بلبنان، وتعطي الإدارة حافزاً لإدخال لبنان ضمن لائحة اهتماماتها.
– أما بالنسبة الى الإعلام، وبعد أن كان لبنان غائباً لفترة طويلة عن الإعلام الاميركي، لاحظنا في الآونة الأخيرة اهتماماً ملحوظاً بما يجري في لبنان، خصوصاً في مناسبة ذكرى تفجير مرفأ بيروت. ومع أنّ الأخبار والتعليقات المنشورة في الوسائل المرئية والمكتوبة والمسموعة هي بمعظمها سلبية، إذ ليس من تطورات إيجابية جديرة بالنشر تحصل في لبنان في الوقت الحاضر، ولكن الإدارة الأميركية تعير أهمية لما يُنشر في وسائل الإعلام المحلية، وقد يؤدي ذلك الى اهتمام متزايد بلبنان.
– وفي ما يتعلق بالإدارة، لا بدّ من الإشارة الى ما تقوم به المنظمات اللبنانية الأميركية لحضّ الإدارة على إيلاء الموضوع اللبناني الأهمية التي يستحقها.
أهم المنظمات التي تهتم بالشأن اللبناني في واشنطن وتقوم بنشاطات جدّية سعياً الى مساعدة لبنان على الصعيد السياسي، هي «فريق العمل الأميركي من أجل لبنان» التي يرأسها ادوارد غابريال، اللبناني الأصل، والذي كان سفيراً للولايات المتحدة في المغرب في عهد الرئيس بيل كلينتون، وله علاقات جيدة مع وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن، و»معهد الشرق الأوسط» الذي يرأسه بول سالم، نجل وزير الخارجية اللبنانية الأسبق أيلي سالم، والذي هو أيضاً مرتبط بعلاقة جيدة مع بلينكن، علماً أنّ هذه المنظمة لا علاقة لها إطلاقاً بالمنظمة المعروفة بإسم «معهد واشنطن للشرق الأوسط» التي هي مؤسسة دراسات تابعة للوبي الإسرائيلي.
أهم المنظمات التي تهتم بالشأن اللبناني في واشنطن وتقوم بنشاطات جدّية سعياً الى مساعدة لبنان على الصعيد السياسي، هي «فريق العمل الأميركي من أجل لبنان» التي يرأسها ادوارد غابريال، اللبناني الأصل، والذي كان سفيراً للولايات المتحدة في المغرب في عهد الرئيس بيل كلينتون، وله علاقات جيدة مع وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن، و»معهد الشرق الأوسط» الذي يرأسه بول سالم، نجل وزير الخارجية اللبنانية الأسبق أيلي سالم، والذي هو أيضاً مرتبط بعلاقة جيدة مع بلينكن، علماً أنّ هذه المنظمة لا علاقة لها إطلاقاً بالمنظمة المعروفة بإسم «معهد واشنطن للشرق الأوسط» التي هي مؤسسة دراسات تابعة للوبي الإسرائيلي.
هنالك أيضاً عدد من المنظمات اللبنانية-الأميركية التي تهتم بالشؤون السياسية، ولكنها تابعة لأحزاب لبنانية وتتحدث بإسم هذه الأحزاب، وبالتالي ليس لها تأثير ملموس، بل نشاطها يقتصر على الجالية اللبنانية. كما يوجد عدد من المنظمات التي تجمع مساعدات إنسانية للبنان وفي طليعتها مؤسسة رينيه معوض وغيرها.
من أبرز النشاطات التي قامت بها هذه المنظمات على الصعيد السياسي، إعداد دراسة مشتركة في بداية عهد بايدن بين كل من فريق العمل من أجل لبنان، ومعهد الشرق الأوسط، ومنظمة «لايف»، تشرح بالتفصيل أوضاع لبنان، وتقترح على الإدارة طرق ووسائل الدعم. وقد تمّ تقديم هذه الدراسة شخصياً الى بلينكن الذي وعد بإيلائها الإهتمام اللازم.
وقد يكون من نتائج الضغوط الممارسة على الإدارة من الكونغرس والمنظمات اللبنانية-الأميركية، إعلان بايدن منذ أيام تقديم مساعدة إضافية للشعب اللبناني (وليس للحكومة اللبنانية) بقيمة 100 مليون دولار أميركي، وفي ذلك تطور إيجابي لا بأس به، وقد تليه خطوات أخرى. هذا طبعاً بالإضافة الى المساعدات المقدّمة باستمرار الى الجيش اللبناني، الذي يلقى قائده العماد جوزف عون تأييداً أميركياً واضحاً.
يدور الحديث حالياً في بعض وسائل الإعلام اللبنانية عن لقاء محتمل بين البطريرك الراعي والرئيس بايدن. وينبغي التوضيح هنا، أنّه لم يُحدّد أي موعد لمثل هذا اللقاء، وأنّه لم يصدر عن الإدارة الأميركية حتى الآن أي تعليق حول الموضوع، ولكن بعض المنظمات اللبنانية-الأميركية تدعو الرئيس بايدن الى استقبال البطريرك في البيت الأبيض، نظراً لمواقفه المطالبة ببسط سلطة الدولة على كافة الاراضي اللبنانية، وهي مواقف تؤيّدها أيضاً الولايات المتحدة.
في مقابل هذه المؤشرات حول امكانية حصول اهتمام أميركي متزايد بالشأن اللبناني، هنالك أمور وتطورات داخل الولايات المتحدة وخارجها، قد تترك لبنان خارج دائرة الإهتمامات الأميركية في المستقبل المنظور من عهد بايدن أهمها:
– على الصعيد الداخلي، تفشي جائحة كورونا بنحو متزايد، خصوصاً متحور «دلتا» الذي أدّى الى اكتظاظ متجدّد في المستشفيات في عدد من الولايات، وذلك على خلفية رفض عشرات الملايين من المواطنين الأميركيين التلقح لأسباب مختلفة، معظمها عائد الى كون قسم كبير منهم من الحزب الجمهوري المناهض لبايدن.
– إنشغال بايدن بقضايا داخلية تشريعية هامة، مثل موضوع موازنة الدولة، وقانون إعادة تأهيل البنى التحتية، وهي مشاريع تلقى معارضة من أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس من جهة، وهم يتهمون بايدن بتبني مبادئ إشتراكية، كونه يحاول تفعيل الإقتصاد عبر برامج تحفيزية، كما تلقى معارضة من الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي الذين يطالبون بمزيد من الإنفاق لمساعدة الطبقة المحتاجة من الشعب. وعلى بايدن أن يوفق بين هذه الإتجاهين المتناقضين لتنفيذ مشاريعه التي وعد بتنفيذها في حملته الإنتخابية.
– على الصعيد الخارجي، تشكّل الصين تهديداً اقتصادياً جدّياً للولايات المتحدة، ومن المتوقع ان تصبح الصين الإقتصاد الأول في العالم بدل الولايات المتحدة، بعد أقل من عقد من الزمن. هذا بالإضافة الى التحدّيات الصينية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأقصى، خصوصاً في جنوب بحر الصين، وهونغ كونغ، وتايوان، وموضوع حقوق الإنسان في غرب الصين الذي يعلّق عليه بايدن أهمية كبرى. كذلك هنالك التحدّي الروسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وفي وسط آسيا، وكذلك التحدّي الناجم عن قرار الإنسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، وما رافقه من سيطرة حركة «طالبان» على حساب الحكومة الشرعية، التي سعت الولايات المتحدة الى دعمها وتعزيز جيشها لسنوات عدة.
المصدر الجمهورية – السفير مسعود معروف