قد لا تكون ثمة مغالاة في القول أن يوم أمس شكل احد أسوأ أيام الفوضى الزاحفة والمتدحرجة بسبب التخبط الهائل في تحمل الدولة لتبعات المسرحيات السياسية والسلطوية الفاقعة التي تجري على وقع عذابات الناس وذلّهم وسط تحوّل لبنان جحيماً بكل ما للكلمة من معنى ومحتوى دراماتيكيين. وتمادت مهزلة الصراع بين السلطة السياسية ممثلة خصوصاً بالعهد وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول قرار رفع الدعم عن المحروقات، وسط انكشاف الملابسات الفاضحة التي سبقت وواكبت القرار، بما يثبت ان السلطة التي تفصح بلا خجل بأنها تستبيح الاحتياط الالزامي، كانت تغض الطرف بل تنتظر قرار رفع الدعم لتختبئ وراءه. وفي غضون ذلك، بدا لبنان بأسره بكل مناطقه وبكل القطاعات عرضة لبلوغ الاختناق ذروة غير مسبوقة مع الشلل الذي أصاب كل شيء بفعل العجز او التقاعس المتعمد لعدم حسم قرار اصدار جدول اسعار المحروقات. ولم يقف الامر عند حدود التفاقم القياسي في أزمات اختفاء البنزين والمازوت وانعدام ساعات التغذية الكهربائية، وتهديد قطاع خدمات الانترنت للمرة الأولى جدياً وبخطورة عالية، وتفاقم مخيف في مأساة المستشفيات وتهديد مجمل القطاعات الإنتاجية والخدماتية بالانقطاع الطويل للتيار الكهربائي… اذ بالإضافة الى هذا الواقع الكارثي، بدا المشهد السياسي متجهاً نحو مزيد من التخبط في ظل اتجاه سياسي واضح لدى العهد متأثراً بقوة لافتة باندفاعات رئيس تياره السياسي النائب جبران باسيل نحو محاولة اسقاط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وتحويل ملف رفع الدعم مناسبة شعبوية بامتياز حتى حدود التحريض.
بعبدا والسرايا
وبدا ذلك واضحاً من خلال تصعيد الحملة التي يشنها “التيار الوطني الحر” على سلامة عبر مواقف جديدة لرئيسه وتكرار تظاهر انصار التيار لليوم الثاني امام منزل سلامة مساء امس في الصفرا حيث حصلت صدامات بينهم وبين قوى الامن بعد محاولاتهم اقتحام المنزل. وهو الامر الذي تناغم ووجد ترجمة مباشرة له مع تطور خطير حاول رئيس الجمهورية تمريره عبر عقد جلسة لمجلس الوزراء للحكومة المستقيلة في محاولة من شأنها خرق الدستور وتشكيل مطية لاجتهادات انقلابية ضد وضع حاكم مصرف لبنان. ولكن التطور الأبرز تمثل في فشل هذه المحاولة بفعل رفض الرئيس حسان دياب الدعوة الى عقد هذه الجلسة باعتبارها خرقاً للدستور. وأعلنت رئاسة الجمهورية مساء ان الرئيس عون “دعا مجلس الوزراء إلى الانعقاد بصورة استثنائية للضرورة القصوى بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسان دياب، على أن تخصص هذه الجلسة لمعالجة أسباب أزمة عدم توافر المشتقات النفطية على أنواعها في السوق المحلية وانقطاعها من جراء قرار حاكم مصرف لبنان الأحادي بوقف الدعم عن هذه المواد وما يسببه ذلك من تداعيات خطيرة على سبل عيش المواطن اللبناني والمقيم على أرض لبنان على مختلف الصعد”. واستند الرئيس عون في دعوته إلى الفقرة 12 من المادة 53 من الدستور.
ووزعت بعبدا نص رسالة عون الى دياب وجاء فيها “في ضوء استفحال ازمة عدم توافر المشتقات النفطية على انواعها في السوق المحلية وانقطاعها، من جراء قرار حاكم مصرف لبنان الاحادي بوقف الدعم عن هذه المواد، وتداعيات هذه الازمة الخطيرة على سبل عيش المواطن اللبناني والمقيم على ارض لبنان على مختلف الصعد سيما التداعيات التي تصيب لقمة العيش والاستشفاء وحق التنقل والانتفاع من التيار الكهربائي والسياحة الموسمية، فضلا عن التداعيات الامنية،
وبما ان حاكم مصرف لبنان لا يزال مصراً على موقفه بالرغم من القوانين والقرارات التي تمكنه من العودة عن قراره واعادة توفير الدعم للمشتقات النفطية، لاسيما قانون البطاقة التمويلية الذي اقره مجلس النواب وبما ان اللجنة الوزارية المعنية بالعمل على وضع اسس البطاقة التمويلية قد انهت اعمالها ووضعت الآلية اللازمة لتنفيذها وتوزيعها والمتوقع صدورها قريباً …وبما ان المصرف المركزي هو شخص من اشخاص القانون العام، وان الحكومة هي التي تضع السياسات العامة في كل المجالات على ما يرد صراحةً في المادة 65 من الدستور، وبما ان “تصريف الاعمال بالمعنى الضيق” لا يحول على الاطلاق دون انعقاد مجلس الوزراء عند توافر عناصر الضرورة القصوى، لذلك، يدعو رئيس الجمهورية مجلس الوزراء الى الانعقاد بصورة استثنائية للضرورة القصوى بالتوافق مع السيد رئيس مجلس الوزراء، على ان تخصص هذه الجلسة لمعالجة اسباب هذه الازمة وتداعياتها وذيولها الخطيرة”.
وعلى الأثر صدر عن المكتب الإعلامي في رئاسة مجلس الوزراء البيان الاتي: “بما أن الحكومة مستقيلة منذ 10 آب 2020، و التزاماً بنص المادة 64 من الدستور التي تحصر صلاحيات الحكومة المستقيلة بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، ومنعاً لأي التباس، فإن رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب ما يزال عند موقفه المبدئي بعدم خرق الدستور وبالتالي عدم دعوة مجلس الوزراء للاجتماع “.
سلامة لـ”النهار”
في المقابل أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في اتصال مع “النهار” أنه مصر على موقفه من رفع الدعم على المحروقات، وأنه لن يتراجع عن هذا الموقف الا في حال تم التشريع لاستخدام الاحتياط الإلزامي خصوصا وأن الأموال المتبقية هي أموال المودعين وهي ملكية خاصة ليس للدولة حق التصرف بها. وأكّد سلامة أن “جميع المسؤولين في لبنان كانوا يعلمون بقرار رفع الدعم، بدءً من رئاسة الجمهورية مروراً بالحكومة وليس انتهاءً بمجلس الدفاع الأعلى”.
ورداً على سؤال في حال لم يتم التشريع، فهل هذا يعني ان رفع الدعم سيطاول ايضا الطحين والأدوية؟ اجاب سلامة أن مصرف لبنان أمن بعض الاحتياط لزوم دعم هاتين المادتين وأنه لا داع للقلق في هذا الشأن.
وعما إذا كان ما يحصل هدفه الضغط عليه للاستقالة اكتفى سلامة بالقول “لا تعليق”.
وحتى ولو تم التشريع لاستخدام الاحتياط، فإن المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة اليها المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر، يؤكد لـ”النهار” أن “الاحتياط الالزامي غير قابل لاي مسّ لانه مال مخصص الأهداف واي قانون يشرع هذا الاعتداء سيكون مخالفاً للدستور ومقدمته والاتفاقات الدولية اضافة الى المبادئ القانونية الاساسية التي بني عليها النظام اللبناني. وتالياً ستقع تلك المخالفة تحت رقابة المجلس الدستوري كما وأنه يفتح المجال لمقاضاة الدولة عن مسؤوليتها عن الاعمال التشريعية”.
وكان النائب باسيل واصل حملته العنيفة على سلامة فكتب على “تويتر”: “للحاكم ولكل يلي عم يغطّوه سياسياً بقراره وهم كتار ومكشوفين: اوقفوا الانفجار! رفع الدعم بيصير تدريجياً. متل ما رفعتوه عن المحروقات من الـ1500 للـ3900 إرفعوه لرقم جديد لحين توزيع البطاقة التمويلية… رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة رفضوا القرار، ولازم حكومة تصريف الأعمال تثبّت انها هي السلطة التنفيذية وتؤكد على خطتها. الحكومة الجديدة لازم تطلع بسرعة، والإنقلاب عليها وعلى الرئيس لازم يفشل… عم تغتالوا شعب بكامله بس شعبنا ما بيموت”.
كما ان نائب الأمين العام لـ”حزب الله ” الشيخ نعيم قاسم رأى أن “حاكم مصرف لبنان يتحمل مسؤولية كبيرة وخطيرة في ما آلت إليه الأوضاع في البلد ويجب أن يحاسب”، متسائلا: “كيف يمكن أن يحاسب إذا لم يتم السير بالتدقيق الجنائي”، مؤكدا أن “المسؤولية تقع أولاً وأخيراً على الحكومة التي يجب أن تتشكل وتأخذ دورها وتقرر بقاء الحاكم من عدمه”.
يوم مشحون
اما الواقع على الارض، فشهد امس يوماً مشحوناً مع استفحال ازمة المحروقات اذ عادت الطوابير لتمتد كيلومترات امام المحطات القليلة التي فتحت لتوزيع البنزين، في وقت شحّ المازوت وانقطع تماماً من السوق، متسبباً بتغذية كهربائية صفر وبتعثر عمل اوجيرو وشركات الانترنت والادارات الرسمية والمؤسسات الخاصة، وسط بلبلة عارمة في تحديد سعر بيع البنزين اذا توافر. وشهدت المحطات اضطرابات واسعة بين المواطنين في مختلف المناطق ويخشى ان تتمدد الازمة الى الثلثاء المقبل بعد عطلة عيد السيدة العذراء الاثنين، لان أي ملامح لإعادة اصدار جدول الأسعار الجديد لم تتضح في ظل الصراع السياسي داخل السلطة.
وكما البنزين والمازوت كذلك الغاز، فقد اعلن ان مخزون الغاز لا يكفي الا خمسة أيام كما تفاقمت ازمة الخبز. وفي ظل استفحال هذه الازمات عمت عمليات قطع الطرق وسط بيروت وضواحيها ومداخلها ومعظم المناطق على فترات متقطعة ولكنها شهدت كثافة في ساعات المساء والليل .
المصدر : النهار