لم يحصل أن ادّعى متهّمٌ بجريمةٍ أنّه، إلى جانب جرمه، وليٌّ لدم ضحيّته في آن، كما حصل عقب سقوط جلسة 12 آب النيابية لعدم اكتمال النصاب. رغم أنّ جمع المتضادّات الغريبة هو جزءٌ وافرٌ من رتابة النمط السلطوي المغطاة بقبول جماهيري مطلق الطاعة، كالدولة والدويلة أو الإصلاح والمحاصصة أو القوة والعجز وغيرها، إلّا أنّ ما فعله أحد المشتبه بهم بجريمة المرفأ اليوم فاق كلّ التوقّعات. كيف وقع مدلّل الرئيس بري ويده اليُمنى، النائب علي حسن خليل في ما يستحيل تدوير زواياه ؟ كيف لأولياء أطنان نيترات الأمونيوم، مواد جريمة تفجير مرفأ بيروت، أن يكونوا أولياء الدم أيضاً ؟ إنها سابقة سوسيولجية وسياسية وأخلاقية أن يُولّى أحدهم بدمٍ يغطي وجهه ورقبته ويديه. مجرمون سفكوا دماً وأدموا بتوحّشٍ، غير مرة، وُلاة أمره ، ثم تولّوه.
على غرار النائب خليل، تغوص كافة مشتقّات السلطة المحتلة للبلاد في متضاداتٍ لا تقلّ غرابةً ومغالاة. فمعركة الحصانات وحّدت الأضداد في مواجهة ميزان العدل. إناءٌ واحدٌ تلاقت فيه بلاغة حسن نصرالله في تخوين التحقيق بركاكة سعد الحريري في الحرص على الدستور وسرديّات بري في سلامة التشريع ولعثمة فرنجية في اللاشيء بعقم العهد في كلّ شيء. إناءٌ لم تنقصه تلويحات يدي إيلي الفرزلي وإيماءات وجهه لينضح بما فيه.
خاضّ حزب الله سابقاً معركة داحس والغبراء في وجه القضاء الدولي بحجّة انصياعه لرغبات العدو الإسرائيلي ويخوضها اليوم في وجه القضاء الوطني بالحجّة ذاتها. في منطق الحزب، ليس لمطرقة القاضي، أي قاضٍ، أن تعلو فوق إصبع الديّان الحاكم. ما من تنافضٍ أكبر من بلدٍ يحتلّه مقاومو احتلاله.
يخلطُ نبيه برّي، منذ أكثر من ثلاثة عقود، معركة رفع حزام البؤس عن رقاب مناصريه بأحزمة الماس حول خصور أفراد عائلته ودائرته الموثوقة. يَخفق العلمانية بالطائفية والتشريع بالبلطجة. يحتكر مطرقةً ويحتقر أخرى. هو القائل “وحده الضعيف يتوجه إلى القضاء”، وهو، أقلّه حتى الساعة، لم يقرّ بضعفه بعد، لكنّه سيفعل لا محالة.
تعداد المتضادّات عند العهد هو مضيعةٌ للحبر والورق، فهو وُلد وعاش ونُفي وعاد وصعد إلى سماء الحكم على بساط التناقضات. لم يحصل أن وصل رئيساً في العالم إلى سدة الحكم في وجه دبابات احتلال وبنادق ميليشياوية تارةً وخلفها تارةً أخرى. ينتفض لرفع الحصانات عن وزراء ونواب ويمتعض لرفعها عن رأس جهازٍ أمني اكتسبه في لعبة المحاصصة الطائفية والسلطوية. ناهيك عن توليفة القوة والعجز في آنٍ واحد.
عند التيار الأزرق، أصبح خطاب الرئيس الأسبق والمستقيل والمكلّف والمعتذر غايةً في التناقض. فهو جنّد البلد بأكمله خلف العدالة لوالده ثمّ جيّش ما تبقى له من هامش الحركة لحجبها عن أكثر من 200 ضحية. أمست حالة “المرشّح الطبيعي” لرئاسة الحكومة غير طبيعية البتة. حالةٌ، ربّما، يشخِّصها تحليل طبيٌّ نفسي أفضل بكثير ممّا قد يفعله أيّ تحليلٍ سياسي.
تجهد أحزاب السلطة اليوم لسحب التحقيق من القاضي بيطار وإيداعه في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. يذكّرنا ذلك بكاتدرائية بابلو إسكوبار، السجن الذي بناه لنفسه ليرتضي تنفيذ حكم القانون فيه. فهم لا يختلفون عنه بأيّ شيء. ليسوا أكثر شرعية منه ولا أقل منه دموية. هو اشتهر بعبارة “plata o plomo”. الفضة أم الرصاص ؟ كان يسأل ضحاياه. هو يحصر خياراتهم بين الرشوة والطاعة وبين الرصاص والموت. وهم أيضاً.
سقطت السُلطة اليوم، على لسان علي حسن خليل، في لعبة ورقتها المفضّلة: قبول الجماهير السريع للمتضادّات. لطالما كان ذلك سترها الدائم، وما كانت السلطة لتخسر سترها لو لم يكن في هذي الجموع ثوارا. فالأرض والشوارع والساحات لم تعد سائغةً لمناصريها. الأرض للثورة، والأخيرة تقول: نحن أولياء الدم وأنتم أولياء النيترات.