في غياب حكومة فاعلة تتخذ قرارات حاسمة، وخلية اقتصادية واعية تختار حلولا عملية للمحنة المعيشية التي يعاني منها أكثر من ٩٠% من شعب لبنان، لن يكون من المستغرب أن يصل التدهور الاقتصادي الى حد ارتجال وعبثية قرار مرتقب ومرتجل برفع الدعم عن مادة البنزين.
وإذا كان الماء مصدر الحياة في الكون. فإن انقطاع البنزين أو القرار برفع الدعم عنه لدرجة الصعوبة الشديدة في الحصول عليه، هو مصدر موت تدريجي بطيء، وفي بلد مثل لبنان خلال محنته الاقتصادية الراهنة، هو قرار مستغرب صدوره في ظل حكومة يحتشد فيها هذا الكم من «التكنوقراط» من أهل الاختصاص في المال والاقتصاد، يفترض أن جميعهم اطلعوا على تقرير دائرة الاحصاء المركزي بأن نسبة التضخم في أسعار الغذاء وحدها بلغت في لبنان ٩٨٠% خلال أقل من ثلاث سنوات، وتخطت هذا الارتفاع في أسعار العديد من السلع الاستهلاكية الأخرى، بما يجعل من أي قرار برفع سعر البنزين الى ما قد يصل الى نحو ٣٠٠ ألف ليرة للصفيحة الواحدة في السوق السوداء، كارثة تدمر بنية الاقتصاد وجريمة اجتماعية موصوفة تهلك معيشة الجزء الأكبر من شعب لبنان.
ذرائع!
بالطبع سيكون هناك مسلسل من الذرائع لدى أهل الحكم لتبرير هكذا قرار هذا بعض منها:
الكثير من الدول المتقدمة أو النامية رفعت الدعم عن البنزين إما بهدف خفض عجز الموازنة وتصحيح ميزان المدفوعات، وإما تلبية لشروط صندوق النقد الدولي كشرط أساسي لا بد من تنفيذه للبدء بمسيرة الحصول على قروض. إضافة الى حجة ان استمرار الدعم يستفيد منه الميسورون الذين يستهلكون الكمية الكبرى من البنزين المدعوم مقابل استفادة أقل من قبل الفقراء وذوي الدخل المحدود.
والجواب على هذه الذرائع هو أن الدول المتقدمة كما العديد من الدول النامية تستثمر الفائض الذي توفره من رفع الدعم في تطوير البنية التحتية وفي مشاريع استثمارية تنتج عائدات مجزية وفرص عمل جديدة للفئات التي تأثرت برفع الدعم بما يفوق في نتائجه الإيجابية السلبيات الناتجة عن رفع الدعم، بينما في لبنان فان الفائض الذي يجري توفيره من رفع الدعم لا يستخدم لأهداف تنموية بل يذهب غالبا الى قنوات يتجه الفائض خلالها وكالعادة الى دويلات ميليشيات المحاصصات والمغانم.
وأما بالنسبة لذريعة الاضطرار الى رفع الدعم بهدف خفض عجز الموازنة، فالجواب هو انه بدلا من خفض العجز عبر وقف مسلسل النهب والسلب والهدر من واردات الموازنة وموارد الخزينة، استسهلت الدولة رفع الدعم عن مادة أساسية تتعلق بها أوضاع ومصير مختلف القطاعات الاقتصادية والشرائح الاجتماعية، ولا يمكن برفع سعرها تحقيق أي انتعاش اقتصادي أو انمائي، بل أن رفع الدعم عنها سيزيد في حدة التدهور الاقتصادي والاجتماعي والأمني.
وأما ذريعة ان الاستمرار في رفع الدعم هو لصالح الطبقات الميسورة من ذوات الثراء العالي، فالجواب عليها أن وقف هذا الخلل لا يكون برفع الدعم ووضعه على عاتق الطبقات المحتاجة والفقيرة، وانما بزيادة النسبة التصاعدية في الضرائب على المداخيل العالية وعلى الثروات وحتى على مظاهر الثروة على الشكل المطبق في العديد من الدول المتقدمة، وبحيث يؤخذ من هذه الطبقات باليسار ما تحصل عليه من منافع ومزايا الدعم باليمين.
وأما بشأن ذريعة ان القرار برفع الدعم شرط أساسي من صندوق الدولي للبدء بمسيرة الحصول على قروض، فأن الجواب عليه ان هذا القرار يستبق الأمور أولا لجهة ان لبنان ما زال في مرحلة الاتصالات والمباحثات والاستفسارات مع المؤسسة الدولية ولم يجلس بعد الى طاولة المفاوضات. كما انه حتى ولو اشترط الصندوق رفع الدعم، فإن له وللدولة اللبنانية الدرس التاريخي الأكبر من «ثورة الخبز» في عهد الرئيس أنور السادات الذي بعد أن اتخذ قرارا برفع الدعم عن الرغيف بناء على توصية من الصندوق الدولي، خرجت الملايين من أبناء الشعب الغاضب وتهدد الأمن والاستقرار بالفوضى والخراب، ما أدى في النهاية وبموافقة صندوق النقد الى العودة عن قرار رفع الدعم.
فهل تريد الدولة اللبنانية أن تكرر التجربة ذاتها وصولا الى النتائج ذاتها متجاهلة المثل الشهير: «من جرّب المجرّب عقله مخرّب»!
ويبقى أخيرا من الذرائع، الوعد المفترض أن يترافق مع قرار الدعم تقديم نحو ١٤ صفيحة بنزين مجانية ثلثها تقريبا لكل عائلة والثلثان للسائق العمومي. وهذه كان يمكن أن تكون لفحة مهدئة من نسيم عليل، لولا ان التجربة دلت على أن غالبية وعود الدولة اللبنانية من البطاقة التموينية والتمويلية الى الكابيتال كونترول الى الدولار الطلابي الى اعادة الودائع الى استحقاقات اليوروبوندز الى التحقيق الجنائي وتحقيقات انفجار مرفأ بيروت، ينطبق عليها جميعا المثل المصري الشائع: «عالمشمش». حيث لا مشمش. والمثل الشامي اللاذع: «عالوعد يا كمون» حيث لا وعد ولا كمون ولا من يحزنون.
المصدر : ذو الفقار قبيسي – اللواء