سقطت فكرة أنه يُمكن من خلال “الحصار” إسقاط “حزب الله” من الداخل. من مُحاكاة مؤتمر “تفكيك شيفرة حزب الله” في الإمارات عام 2018 ، جرّبت الدول الراعية للمشروع نماذج وسيناريوهات عدة تدفع لتقليب بيئة المقاومة عليها ، ولم تنجح على النحو المأمول الذي يفيد في إحداث “نقلة نوعية” أو تأمين خرق في الجدار، ولو أنها ولّدت على ضفة إنضاج تلك النزعة “جماعات” صغيرة غاب عنها التأثير لتنشغل في البحث عن دور.
ليس بين اللبنانيين، من ساسة وصنّاع رأي، من يشكّك بأن ثمة مشروع لعزل وضرب “حزب الله”. أحياناً البعض يخجل من تناوله وآخر يُنكره، أو أنه يتركه لأجل إدارة من “صاحبه”، حافظاً لنفسه موقع الإنطلاق في مجال الإستفادة لاحقاً. هذه الفئة، وبكل تأكيد، باتت تقرّ بنجاح الحزب بقلب الأمور وموازين القوى إلى صالحه. وبدل أن يرسو الضرر ضمن بيئته، يُسجّل التراجع لدى البيئات الأخرى.
عملياً، لا يمكن تقسيم “موجة الحصار” التي تعصف بالبلاد من حيث الخلفيات والأهداف. هي وحدة قائمة بذاتها موزّعة التأثير على مختلف الجهات. صحيح أن بيئة المقاومة ومقارنةً مع البيئات الاخرى، يُعدّ تأثير الحصار عليها منخفضاً -وهذا لا يعني البتة تجهيل حصول تأثيرات مُعينة- لكنها تبقى إلى حينه ضمن الهوامش الضيّقة وأقلّ مما هو مخطّط أو مأمول. ودون أي شك، بيئة المقاومة تتأثر بمحيطها. هذا المحيط وفي حال طاله أو نال منه الداء، فإن انعكاسه يتمظهر على بيئة المقاومة بحكم طبيعة التداخل بين البيئات اللبنانية المختلفة.
باعتراف كثر، استفاد “حزب الله” من “الحصار” ضمن الوجه الداخلي، وثمة من يقول أن الحزب “هجّن” ما تيسّر من مشروع استهدافه ولم ينحنِ للعاصفة إنما سار معها: حصّن بيئته. شدّ عصب جمهوره. تعامل مع الأزمة بسلاحها، أي الدولار. وطوال ما يقارب عامين منذ اندلاعها، ما زال الحزب يرفد عناصره ومقاتليه بالدولار “الفريش” الطازج ومن دون أي تأثير يُذكر، ولاحقاً تجاوز ذلك نحو تأسيس “جهات مُساهمة” وبالعملة الصعبة وبالأسعار المدعومة بهدف مقاومة الحصار. و بقرار من أعلى مرجعية في الحزب، بات الدولار يُمرّر من العناصر إلى محيطهم العائلي أو السكني، ومن هذا المحيط تتسرّب النسبة الأكبر منه إلى الإقتصاد. ورُبّ قائلٍ أنه لولا دولارات الحزب، لكانت العملة الخضراء قد ضربت حدود الـ50 ألف ليرة (وربما أكثر) منذ زمن.
ما أُريد تحقيقه إذاً من “الحصار الإقتصادي”، أثبت عدم جدواه أو منفعته بالمعنى الشامل، أي إحداث تغييرات بنيوية داخل بيئة المقاومة. تقريباً، تمّ تجريب كل الوسائل الإقتصادية المتاحة، من العقوبات إلى سياسة تقنين العملة والصرف على الدعم وسواه، والآن نشهد على نماذج من “حرب الكهرباء” وتجفيف منابع “المازوت” التي يعتبرها البعض “المدماك” الأخير في الحرب الإقتصادية.
لكن هل هذه نهاية المشكلة؟ الجواب كلا. عملياً، وقياساً إلى ما يُرتّب وما قد ترتّب في الشارع، يمكن القول أن الخطوة المقبلة أو الجاري الإنتقال إليها الآن، تتمثّل في نقل المواجهة إلى الهواء الطلق. وعملاً بموضوع “استثمار نتائج الأزمة”، إنتقل “رعاة الحصار” من تقليب بيئة المقاومة عليها إلى تقليب البيئات الأخرى المتضرّرة. من هنا، كان قد رسا تفسير “حزب الله” لحادثة اغتيال المواطن علي شبلي، وما تبع ذلك من أحداث في خلدة ولاحقاً في الجنوب وصولاً إلى شويّا، على أنها حوادث مفتعلة غير يتيمة و تندرج ضمن سياق.
ولا بد أن يُذكر هنا وضمن هذا المجال تحديداً، أن علي شبلي الذي وافق “حزب الله” على خروجه من منزله ومؤسساته لمدة 3 أعوام، مرتضياً الأعراف العشائرية ولو أنه غير مقتنع بضلوعه في مقتل الفتى من آل غصن، لم يحترم الجانب الآخر تعهداته بوقف ملاحقة شبلي، بدليل تدخلات عمّ المقتول برتبة شيخ وتعمّده تحريض شقيق القتيل. وعلى غير ما يُشاع، لم يكن شبلي متخفياً أو مطلوباً لدى أي جهاز أمني. وعلى الأرجح تحركاته وتنقلاته كانت السبب في اغتياله.
في الواقع، إن ملاحقة علي شبلي إلى حفل زفاف في منتجع بمنطقة الجية (تبيّن أن الجاني قصده سابقاً واستأجر غرفة ومكث فيه) واغتياله هناك، ثم الإقبال على تنفيذ انتشار عسكري مسلح في خلدة و “الكمن” للمشيعين وإمطارهم بالرصاص الحي وتنفيذ إعدامات ميدانية، ومن ثم تخفّي المجموعة التي لا يقلّ عدد أعضائها عن 30 بين عسكري ولوجستي، ما يعني أن المسألة أكثر من مجرّد حادث عابر، إنما وجود رغبة لدفع “حزب الله” نحو مواجهة من الطراز الأهلي ومع بيئات متداخلة معه في ظاهرها، ومع فصيل عسكري مدرّب في باطنها.
الأمر نفسه تكرّر تقريباً في شويّا ولو على نحو مغاير تقريباً. على ما يظهر، كانت ثمة نزعة متولدة لدى مجموعة تجاه الحزب، وإن لم يعترف أو يقرّ الحزب بعد لحساباته وهذا مفهوم، إنما لا يمكن التغاضي عن أن ما جرى كان سيناريو متكامل العناصر ومدبّراً، بدأ برصد ثم إنتهى بكمين. رصد منطقة إطلاق الصواريخ فور إطلاقها والكمن عند ساحة البلدة، وبين الحالة الأولى والحالة الثانية، حدث شيءٌ على طريق العودة “الترابي”، وما زال الحزب متستّراً حوله وأجبر “مجموعة المقاومة” على سلوك الطريق المعبّدة. وتماماً كما كانت حادثة خلدة كذلك شويا: إستدراج رد فعل أهلي لجرّ الحزب إليه، والذي يبدو واضحاً أكثر، أن تلك الأفعال تشهدها مناطق تقع ضمن جغرافيات متداخلة مع بيئة المقاومة. الأبعد من ذلك، أن النيّة أو الرغبة هذه المرّة لا تكمن حصراً في دفع الحزب إلى ردة فعل إنما بيئته ومناصريه المسلحين. وفي حادثة “بائع التين” في صيدا يظهر نموذج مسارعة الحزب إلى الملاقاة على الطريقة المقلوبة: المسارعة إلى احتضان بائعي التين من المشايخ.
بالعودة إلى حادثة خلدة، كان “حزب الله” قد وضع إطاراً لبدء البحث عن حلّ مع العشائر العربية. في لاوعي الحزب، إدراكٌ للحاجة والضرورة إلى تصفير المشاكل مع الشرائح ضمن البيئات المتداخلة، لكنه وضع أساساً للإنطلاق نحو المعالجة، جوهره استكمال التوقيفات للمتورطين في حادثة “الكمين”أي الـ25 إسماً الباقين ضمن المجموعة المطلوبة.
لكن القضية لن تنتهي هنا. ثمة مسارٌ طويل للمعالجة يبدأ في الأساس من مبدأ الإعتراف بالآخر. على أبناء العشائر التخلّي عن نزعة أننا أهل الأرض والباقي “جلب”. فكما أشترى العرب العقارات كذلك فعل غيرهم. ولعل أي “صلحة” لا بد ان “يركب” فيها إقرار بتعريف حدود دور العرب، وإنهاء ظاهرة أنهم أصحاب الصلاحية في تقرير مصير من يستحق أن يبقى من السكان، والتي تتيح للبعض منهم محاولة الهيمنة والطرد.
في المقام الثاني، لا بد من اجتثاث مظاهر التكفير والتخفيف من حركة تنقّل “اللحى” المشبوهة وعمليات التحشيد والتجييش الطائفي، وفي المقام الثالث لا بد من إنهاء ظاهرة التعدّي على الخط الساحلي والتزام الإإبتعاد عنه، وعدم اتخاذه اسيراً لأي تطور سواء كان سياسياً أو إجتماعياً مقبلاً
ألمصدر :ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح