لم يكن “دارجاً” أن تتجاوز المقاومة محاولة العدو إجراء “إعادة هندسة” على معادلة الردع المثبتة منذ العام 2006. صمتت المقاومة على “تجاوزات” مرحلة ما بعد إطلاق الصواريخ قبل أيام ولم تعلّق. ربما خُيّل إلى العدو أن المقاومة ليست في وارد التصعيد، فاستغل ذلك من أجل التمادي. صار راغباً في المغامرة ونقل استهدافاته إلى ما بعد “حافة الجبهة” نحو منطقة “الحزام الأمني” للمقاومة. قيل الكثير منذ غارة فجر الخميس، وربطاً بحادثة خلدة، خلص البعض إلى الإعتقاد بأن “قوة ردع” الحزب تآكلت أو تضرّرت بالفعل.
الأمر نفسه تبنّاه العدو. غلب الإعتقاد لدى المعلقين الصهاينة أن “حزب الله” لن يُقدم على الردّ، ربطاً بأحداث الداخل اللبناني، وربما ولّدت هذه الحالة نزعةً لدى رئيس الوزراء نفتالي بينت، ورغبة ًفي إجراء تصحيح بياني على معادلة “الردع”، تكريساً لصورته “التغييرية” في الداخل الصهيوني، ليكتشف هو والآخرين بأنهم على خطأ.
إن كان ظنّ العدو تجاه معادلة الردع مفهوماً ، فإن تصرفات بعض من في الداخل ليست مفهومة على الإطلاق. ثمة فئة لم تعد تستحي من تقديم الخدمات إلى العدو أو رغبتها في العمل “كشّافاً” لديه. هذا توصيف حادثة قطع الطريق على “محمولة” صواريخ تابعة لـ”حزب الله” كانت في طريق عودتها من مهمتها في بلدة شويا قضاء حاصبيا واعتداء وأسر من فيها. أدقّ توصيف لما جرى هو “الكمين” وهذا مردّه إلى وجود احتمالات بتحضيرات سبقت الحادثة، وقد يكون البعض قد نهل مشهدية “كمين” خلدة وأراد تعميمه!
حالياً، لا داعي للغوص في الخلفيات لعدم تضييع “الإنجاز” في الزواريب الأهلية. لقد راهن العدو خلال تحرير 2000 وما زال على افتعال اشتباك أهلي بين المقاومة وسكان المناطق المحرّرة من اتباع المذاهب الأخرى. المسؤولية في ردّ الهجمة تقع على القوى الحيّة في المنطقة. الإتصالات من قبل المرجعيات الكبرى و بيانات الإدانة والإستنكار لا تنفع في إنهاء ذيول الحادثة أو أي حادثة مماثلة في المستقبل. المطلوب إجراءات فورية ومصارحة الناس بحقيقة المعلومات حول وجود مجموعات قامت برصد تحركات المقاومين، وحتى انتهاء التحقيق الذي فتحته المقاومة، على المعنييّن المبادرة.
عملياً، كان من غير المتوقّع أن تسمح المقاومة بإدخال أي تعديل على معادلة الردع. في الحالات المماثلة، أي تعديل يستدعي حرباً، والعدو غير جاهز لها بعد. لقد حفلت الأعوام الماضية بمحاولات إسرائيلية كثيفة كانت المقاومة تلاقيها بالنار. تحت هذا السقف، كان العدو يتخذ من جانبه قراراً بتجنّب إسقاط إصابات بشرية خلال استهدافاته التي دارت تحت مسمّى “المعركة ضمن الحروب” ، المصطلح الذي أنشأه العدو و ارتضته المقاومة كأسلوب قتال مستمر طوّرته في المفاهيم القتالية عند سفوح هضبة الجولان، وضمن اللعبة الأمنية وتأمين الحاجة التقنية واللوجستية في الداخل اللبناني.
بدايةً، وقبل قراءة “التطور الجنوبي” من إطلاق الصواريخ “اللقيطة” إلى الردّ عليها، لا بد من الإضاءة على عدة عوامل طارئة:
1. المناورات الاسرائيلية على طول الحدود الجنوبية. وللعلم، فإن تلك المناورات ليست ابنة ساعتها إنما قضية موسمية يعتمدها العدو منذ إخفاقه في عدوان 2006.
2. المناورة الصامتة للمقاومة، والتي انتهت عملياً نهار الأربعاء. ربطاً بذلك، يُعتقد أن مناورة المقاومة جاءت كأسلوب ردّ ويقظة مقابل مناورة العدو.
3. يتزامن “التطور الجنوبي” مع حالة إقتصادية لبنانية سيئة ومؤشرات سلبية. يعتقد البعض أن الحزب وفي ظل انشغاله في الأزمة، يمكن استدراجه إلى معركة ليتورّط بها.
4. حلول موعد التجديد للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل”. ويُحكى هذا الموسم عن مساعي متجددة لإدخال تعديلات على نص القرار 1701.
5. تزامن إطلاق الصواريخ “اللقيطة” مع إحياء الذكرى الأولى لانفجار المرفأ في 4 آب 2020، وسطوع نجم أكثر من جهة تموّل شاشات رفعت من أسهم اتهام “حزب الله” بالقضية.
تأسيساً على النقطة الأخيرة، ظهرت جلية، السرعة في الإستثمار الإعلامي ومن جانب بعض “الأبواق” فاتخاذ “إطلاق الصواريخ” والردّ الاسرائيلي عليها بمثابة رد فعل من جانب الحزب لتشتيت الأنظار عن إحتفالية 4 آب! هي بروباغندا تولى تسويقها أكثر من طرف، وقد ترافقت مع عودة “سيناريو” شهود الزور ومحاولة إقحام الحزب في ما جرى في المرفأ، وهذا ليس تفصيلاً.
وعملاً بقاعدة إنبات “شهود الزور” في المرفأ، قد تكون ثمة جهة أو أكثر، “زرعت صواريخ الأربعاء” كشهود زور في الجنوب بنسخة منقحة، سيّما مع “تجهيل الفاعل” تقنياً وتظهيره سياسياً دون دليل، ليكون الهدف افتعال “مناوشة” بين المقاومة والعدو عبر الرهان على استدراج هذا الأخير نحو ردّ فعل يستجلب فعلاً من جانب المقاومة يمكن أن يؤدي لاحقاً إلى معركة، عبر المراكمة على مسألة “زرك المقاومة” من خلال إظهار “ضعفها” في معادلة الردع “الحساسة” بالنسبة إليها، والتي قد تدفعها نحو الإنزلاق إلى ردّ فعل قد يجر إلى مواجهة شاملة. سيجد الحزب كما عام 2006 إتهاماً معلباً وجاهزاً لإسقاطه عليه. المجد هنا للصبر والبصيرة!
بالنسبة إلى الاسرائيلي، يُدرك أن “حزب الله” لا يقف خلف إطلاق صواريخ الأربعاء. فسّر ذلك من خلال تجنّبه أي ردّ فيه استهداف مباشر للحزب، ثم ترك لسلسلة المعلقين والمحللين العسكريين مهمة “التعمّق” في الإستنتاج. قد يكون الإسرائيلي حلّل ربما احتمال وجود طرف ما ، يراهن على استدراجه نحو مواجهة مفتوحة مع المقاومة. يدرك في قرارة نفسه بأنه ليس جاهزاً لها بعد وإمكانية تحقيقه لنجاح خلالها غير متوفرة وغير متمكن من قدراته، وإلا لكان وسّع من حركته. تأسيساً على ذلك، كان قد عاد إلى سيناريوهات الرد السابقة واستغلها في إطار محاولة تعديل “معادلة الردع”، ليحصره ضمن نطاق مناطق خالية، وصفها أحد المعلقين الصهاينة بأنها “حركة إعلامية”، وغالباً هو تصريف لفعل إدراكه بأن أحداً يُريد دفعه نحو مواجهة بدوره.
عودة هنا إلى منطق الكمائن. “حزب الله” نجا الأسبوع الماضي من كمين خلدة، وخلال “بحر” الأسبوع الجاري من كمين أعدّ له في محيط المرفأ، وفي نفس التوقيت نجا من كمين آخر في الجنوب. إنها نعمة “الصبر والبصيرة”، وعلى الأرجح، ستكون المرحلة المقبلة محفوفة بالكمائن. هنا، وربطاً بحركة الداخل والخارج وارتفاع لغة التحريض واتهام الحزب ، وبالحديث الرسمي السعودي ودعوته أطراف الداخل لمواجهته… فتش عن المستفيد دوماً.