لا تتوقّف محنة مرفأ بيروت على جريمة تفجيره في 4 آب من العام الماضي. فقد أطلقَ المرفأ نشاطه بعد الحرب الأهلية على قاعدة غير صلبة، أرادتها السلطة السياسية كذلك، لتتمكّن من تعزيز سلطتها وإدارة المرفأ والاستفادة من إيراداته، وفق ما يتناسب مع المصالح الخاصة لأقطابها، لا المصلحة العامة. وإن كان المرفأ قد شهد أحيانًا بعض الازدهار والتطوير في أعماله، إلاّ أن أسباب انهياره كانت تختمر على مهل، وصولًا لتفجيره واحتمال إزالته عن الخريطة الاقتصادية للبنان والمنطقة.
النجاح ومحاولة النهوض
في أحدث أرقام تؤشّر لنجاحاته، احتلّ مرفأ بيروت في العام 2018 المرتبة السادسة بين مرافىء المنطقة العربية، فيما توسّع حجم حركة الحاويات بمعدّل 8.3 بالمئة لمدة 9 أعوام، بين العامين 2005 و2014. فازداد معدّل الحاويات الموجودة في المرفأ من 390 ألف حاوية في العام 2005 إلى 870 ألف حاوية في العام 2018. كما ارتفع معدّل إعادة الشحن من المرفأ من 80 ألف حاوية في العام 2005 إلى 430 ألف حاوية في العام 2018. وتدل تلك الزيادة على نمو سنوي بنسبة 6.4 بالمئة. وذلك بالاستناد إلى إحصاءات إدارة المرفأ.
أطاحت جريمة التفجير بذلك التقدّم، فتراجعت حركة المرفأ “بنحو 50 بالمئة”، وفق ما يؤكّده رئيس الغرفة الدولية للملاحة في مرفأ بيروت، إيلي زخّور، لـ”المدن”. وما حفظ ماء وجه المرفأ هو عدم تضرر محطة الحاويات بشكل بالغ، فقد تم إصلاح 10 رافعات جسرية من أصل 16 رافعة، ما ساعد في استئناف العمل بعد أسبوع من التفجير، لكنه لم يحل الأزمة، خصوصاً وأن المرفأ لم يستطع الحفاظ على زخم الحركة التي كانت تؤمّن للبنان الكثير من السلع غير المتوفّرة في السوق المحلي، حين كان يستفيد لبنان من رسوّ الحاويات المتّجهة إلى سوريا ومصر بشكل أساسي. ووصول تلك الحاويات “كان يؤمّن 45 بالمئة من حركة المرفأ، فيما وصلت الحركة اليوم إلى نحو 12 بالمئة، وقد ساهم انتشار فيروس كورونا وتراجع الأوضاع الاقتصادية بتأجيج الأزمة، حتى قبل انفجار المرفأ”.
مماطلة في إعادة الإعمار
حجم الكارثة التي خلّفها التفجير الذي ذهب ضحيته أكثر من 200 قتيل وأكثر من 6000 جريح، فضلًا عن الدمار الذي أصاب الممتلكات العامة والخاصة، أعاد توجيه نظر المجتمع الدولي نحو لبنان، الذي استدعى تناحر أقطاب السلطة فيه إشاحة نظر الدول العربية والغربية عنه. فانهمرت المساعدات الانسانية للمتضررين، وأعلنت شركات أجنبية استعدادها للاستثمار في إعادة إعمار المرفأ. فبرزت مبادرتان ألمانية وفرنسية، تقوم الأولى على استثمار مشترك بين شركة “هامبورغ بورت” للاستشارات وشركة “كولير” الكندية، يُعاد بموجبه إعمار المرفأ بكلفة تتراوح بين 5 إلى 15 مليار دولار، على أن يؤمِّن المشروع 30 مليار دولار على مدى 25 عامًا، ويفتح المجال أمام 50 ألف وظيفة.
أما المبادرة الفرنسية، فطرحتها شركة CMA CGM لشحن الحاويات، تعيد خلالها إعمار المرفأ خلال 3 سنوات، وتشمل إعادة بناء الأحواض والمخازن المدمرة. وكلفة هذه الخطة أقل من الخطة الألمانية، وتتراوح بين 400 و600 مليون دولار.
المبادرتان اللتان طرحتا عبر التواصل مع الوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارة الأشغال العامة، لم تلقَ جوابًا شافيًا، ذلك أن السلطة السياسية لم تتّفق على توزيع الحصص وآلية الاستفادة من أي استثمار. وكيف تتّفق السلطة على تسريع إعادة الإعمار وتطوير المرفأ، وهي التي امتنعت منذ العام 1990 عن تعيين هيئة أو مجلس إدارة أصيل للمرفأ؟ بل فضّلت تعيين لجنة مؤقة لإدارته، عرفت باسم “اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت”. وهذه اللجنة ليس لا أي صفة قانونية ولا تُلزِمها أو تراقبها أو تضبطها أية قوانين وأنظمة وقرارات، كما لا تطالها رقابة وزارة المالية أو ديوان المحاسبة. وعليه، فإن إنفاقها المالي، يستنزف الخزينة العامة من دون تشريع قانوني. وكان ذلك فاتحة للهدر والفساد بلا حسيب أو رقيب.
تحويل الدور
قد تكون المماطلة في إعادة الإعمار نتيجة سجال داخلي تنحصر منطلقاته في لعبة تقاسم الأدوار والحصص بين مكوّنات السلطة. لكن اللمسات الخارجية ليست بعيدة من الأسباب، خصوصاً وأن مرفأ بيروت هو العقبة الأساسية أمام مرفأ حيفا الذي تريد إسرائيل توسيع دوره ليتماشى مع توسيع نفوذها السياسي والتجاري باتجاه الدول العربية، وعلى رأسها دولة الإمارات التي وقّعت مع اسرائيل اتفاقية سلام واعتراف. وتطوير مرفأ حيفا حاجة إسرائيلية وإماراتية مشتركة، حيث يساهم المرفأ في تقليص كلفة توريد البضائع إلى الإمارات عبر قناة السويس، كما أنه يقلّص الوقت المطلوب لوصول البضائع. وقد لا يكون صدفةً تراجع الاهتمام الإماراتي بمرفأ بيروت. إذ ألغت الإمارات في العام 2001، اتفاقية تجهيز وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت، برغم فوز سلطة موانئ دبي بالمناقصة.
تكثر التكهنات حول أسباب تفجير المرفأ، لكن مهما تعدّدت، يبقى أن مرفأ بيروت يتّجه نحو اختفاء دوره وخروجه عن خريطة الموانىء في المنطقة، بفعل ثلاثة تحديات أساسية تهدد تفعيل نشاطه. التحدي الأول، يتمثّل بعدم الاتفاق بين أقطاب السلطة السياسية على الجهة الدولية التي ستتولّى عملية إعادة الإعمار. وهذا الاتفاق يسبق إنجاز المناقصة المطلوبة كمسار قانوني. فالعرضان المقدّمان من شركات ألمانية وفرنسية، لم يحظيا باهتمام جدّي مِن قِبَل السلطة، وبالتالي هما بحكم التجميد.
التحدي الثاني، يتمثّل بتأمين الدولارات اللازمة لاجراء الإصلاحات السريعة المطلوبة لإنجاز ما يمكن من أعمال، في ظل الوضع الحالي للمرفأ. فعلى سبيل المثال، هناك 6 رافعات جسرية صالحة للعمل من أصل 16 رافعة، وأغلبية الآليات والتجهيزات غير صالحة للعمل، وبحاجة ملحّة لعمليات صيانة وإصلاح، تُدفع كلفتها بالدولار. أما التحدي الثالث، فيتعلّق باليد العاملة، وقد بدأت بوادر القلق تظهر من خلال إضراب موظفي شركة BCTC المشغّلة لمحطة الحاويات، ما يسبّب عرقلة إضافية للعمل، بغض النظر عن أحقية المطالب.
لا مؤشرات إيجابية على نجاح عملية إعادة الإعمار، ما يعني أن المرفأ الذي تحوّل إلى ركام، قد يبقى كذلك إلى أجل غير مسمّى. فالتوافق على تحديد أسباب التفجير وهوية المسؤولين عنه، تتقدّم على عملية إعادة الإعمار. وحسم قضية المسؤوليات غير محكوم بوقت
المصدر : المدن -خضر حسان