استبشر اللبنانيون خيراً مع تسمية نجيب ميقاتي رئيساً مكلّفاً تشكيل حكومة، وانعكس ذلك في الأيام الأولى بعد صدور مرسوم التكليف على سعر صرف الدولار، الذي سجّل انهيارات متتالية وصلت إلى عتبة 17 ألف ليرة لبنانية وما دون في بعض المناطق، بسبب الانخفاض الذي سجّلته منذ البداية تطبيقات الهواتف الذكية، لكنّه لم يعكس تماماً حال “السوق الموازي”، الذي بقي حذراً في التعامل مع هذه الأرقام، خصوصاً لناحية بيع الدولارات، وليس لناحية شرائها.
فهذه التطبيقات ما زالت تؤثّر في السوق صعوداً وهبوطاً، بمعزل عن واقع السوق، ومن دون معرفة مَن يقف خلفها بعد مرور ما يربو على سنتين من عمر الأزمة. وللمفارقة فإنّ تحرّكات هذه التطبيقات تصبّ غالباً في مصلحة المصارف ومصلحة مصرف لبنان ووفق أهواء حاكمه المطلق رياض سلامة.
فقد سرت أخبار في الأوساط المصرفية عن أنّ هذا الانخفاض الذي تلا لحظة التكليف، لم يكن إلاّ Geste monétaire من حاكم مصرف لبنان لانطلاقة ميقاتي الحكومية، لكن سرعان ما انتهى مفعولها، مع عودة سعر الصرف إلى الارتفاع نهاية الأسبوع مسجّلاً ارتفاعاً ملموساً بلغ عتبة 19200 ليرة، ويُتوقّع أن يزيد خلال هذا الأسبوع أيضاً، خصوصاً مع انكشاف حجم انسداد الأفق الحكومي والمراوحة والتعنّت في المطالب من جهة رئيس الجمهورية وفريقه، الذي استنسخ مطالبه من تجربة الحريري ونقلها إلى تجربة ميقاتي.
أمّا البيان الذي أصدره رياض سلامة يوم الجمعة، فيمكن تسميته “بيان الحسم” الذي وضع النقاط على الحروف على الرغم من مروره على محطات التلفزة وفي وسائل الإعلام مرور الكرام. إذ كشف البيان حجم الأزمة، ونبّه “صراحة” إلى مكامن الخلل، لكنّه قال أيضاً، “بالمواربة”، إنّ مفعول تشكيل الحكومة، إذا تشكّلت طبعاً، لن يكون إلاّ هامشياً ومحدودَ التأثير في واقع الأزمة التي نغرق في حفرتها يوماً بعد يوم.
باختصار، يقول رياض سلامة إنّه باع 828 مليون دولار خلال شهر تموز، منها 293 مليوناً لاستيراد مادّتيْ البنزين والمازوت، و415 مليوناً بدل موافقات لشحنات سابقة، و120 مليون دولار لمؤسسة كهرباء لبنان، أي صرف سلامة تقريباً المليار دولار الذي حرّره المجلس المركزي من التوظيفات الإلزامية من خلال اتخاذ قرار خفض نسبة الاحتياط (أموال المودعين) من 15% إلى 14% قبل أسابيع.
هذا المليار كان مخصّصاً لدفع أموال المودعين بموجب التعميم رقم 158، لكنّ حاجات البلد كانت أكبر وألحّ. ثمّ تابع سلامة في بيانه متّهماً “المعنيّين (أي الحكومة) بعدم اتخاذ إجراءات صارمة لوقف معاناة المواطنين”، معتبراً أنّ “هذه المعاناة سببها: التهريب، وإخفاء المحروقات بغية بيعها في السوق السوداء”، ومبيّناً في الوقت نفسه أنّ “الحلّ يكون في تحمّل المعنيين لمسؤوليّاتهم من أجل إيصال هذا الدعم إلى اللبنانيين مباشرة”.
إذاً، كشف سلامة أنّ تكلفة المحروقات (بنزين ومازوت) هي قرابة 300 مليون دولار شهرياً، على الرغم من فقدانها من الأسواق، وهذا يعني أنّ الحاجة الطبيعية في الظروف العادية هي حتماً أكبر من ذلك بكثير! وسيقودنا هذا الكلام بدوره إلى البحث في جدوى تشكيل “حكومة تدور في فلك حزب الله وحلفائه”، حكومة تحمل نَفَسه ومباركته، وغير راغبة بوقف التهريب بين لبنان وسوريا، ذاك التهريب الذي يُفترض أن يكون “البند الأوّل” على لائحة مطالب صندوق النقد الدولي.
وهذا كلّه يعني أنّ حكومة ميقاتي في حال أبصرت النور ستكون أمام خيارين:
1- الاستمرار في الضغط على مصرف لبنان من أجل حرق أموال المودعين (التوظيفات الإلزامية) المليار تلو المليار، لشراء القليل من الأدوية والقمح والكثير من المحروقات لزوم حاجة لبنان وسوريا على السواء… وذلك إلى حين بلوغنا مرحلة الانتخابات النيابية، ووقتئذٍ قد يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
2- الاستفادة من “جائزة” تشكيل حكومة التي خصّصها الغرب، منذ استقالة الرئيس حسان دياب بعيد انفجار 4 آب، والتي يُقال إنّها بحدود 1.6 مليار دولار، وهي من الدول المانحة في مؤتمر “سيدر”، ومن صندوق النقد الدولي الذي أعلن مديره التنفيذي محمود محيي الدين، خلال زيارته لبنان، أنّ الصندوق سيخصّص 860 مليون دولار للبنان، في الشهرين المقبلين.
لكن في الحالتين، ووفقاً للأرقام الآنفة الذكر، نستنتج أنّ لبنان بحاجة إلى ما يقارب 500 مليون دولار كل شهر لسدّ حاجاته من الدواء والمحروقات والقمح والفيول للكهرباء وخلافه، أي أنّ مساعدة صندوق النقد تُضاف إليها مساعدة الدول المانحة، لحكومة ميقاتي، في حال شُكّلت، لن يدوم مفعولها أكثر من 3 أشهر!
بعد ذلك وإلى حين بلوغ الانتخابات، ربّما سنعود إلى مسلسل ارتفاع سعر صرف الدولار، إذ يُتوقّع أن يبلغ أرقاماً قياسية وخيالية جديدة، خصوصاً إذا حاول مصرف لبنان الحدّ من استنزاف توظيفاته الإلزامية، ولا سيّما في حال رفض المجلس المركزي ونواب الحاكم تحرير مبالغ إضافية من خلال خفض نسبة الاحتياط عن سقف 14%.
في حينه، قد يلجأ المركزي إلى لعبته القديمة، أي إلى لعبة شراء الدولارات من “السوق الموازي”. عندها قد يصل سعر الصرف إلى 30 و40، وربّما 50 ألف ليرة لبنانية… وهو الرقم الذي تكهّن به الرئيس الحريري في إحدى جلساته المغلقة أمام مجموعة من رجال الدين قبل اعتذاره بأيام، إذ أسرّ لهم أن لا حكومة في لبنان قبل نهاية عهد ميشال عون، وأنّ الدولار سيصل إلى نحو 50 ألف ليرة.
أمّا إذا اعتذر ميقاتي ولم يُشكّل الحكومة… فالجحيم ستبدو أقرب وأقرب!
المصدر اساس ميديا – عماد الشدياق