قد يكون مر الوقت بالنسبة لبعض اللبنانيين، لكنه قد توقّف بالنسبة للبعض الآخر الساعة 6:07 من مساء 4 آب 2021. فلا يزال تأثير انفجار مرفأ بيروت على الصحة النفسية للبنانيين يلقي بثقله بعد مرور سنة على الكارثة الأليمة.
في أعقاب الانفجار، كانت الاستجابة الفورية على الأرض من المواطنين والمجتمع المدني والمنظمات الدولية تتمثل في المساعدة الطبية والمادية والأمن الغذائي وترميم منازل المتضررين. لكن الانفجار الذي خلف أكثر من 200 شهيد، وأكثر من 6000 جريح، ترك عددًا كبيرًا من الأطفال والبالغين في حال صدمة حيث شعروا بالإرهاق النفسي وعدم الأمان والارتباك بشأن كيفية التكيّف مع الحدث الأليم والمُضي قدمًا، هذا بالإضافة إلى الضغوط الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تثقل كاهلهم.
مُدركاً أهمية الصحة النفسية للضحايا “الأحياء”، أنشأ المركز الطبي في الجامعة الاميركية في بيروت، كغيره من المستشفيات، عيادة طوارئ مجانية للتعامل مع التداعيات النفسية المباشرة للإنفجار.
أوليفيا الشاب أخصائية نفسية، متخصصة في الصدمة والخسارة (Trauma and loss) في المركز الطبي في الجامعة الاميركية في بيروت ساعدت العديد من الضحايا مباشرة بعد الانفجار ولا تزال تتابع الموضوع بشكل وثيق في عيادتها الخاصة.
وفسرّت لـ”لبنان 24” أن “ثقة اللبنانيين في الحياة انمحت جراء الانفجار، لأنه أصابهم في ما يعتبرونه أكثر الأماكن حميمية وأماناً الا وهو منزلهم مما ساهم في تفاقم الأثر النفسي، وأدى كذلك الى موجة هجرة كبيرة، بالإضافة الى الأزمات الأخرى”.
وأضافت شهاب: “كل انسان يختبر الصدمة بطريقة معينّة، وهذا الانفجار سلب كلّ شخص منا شيئاً معيّناً: أحباء، أحلام، منزل، وظيفة… واليوم بعد مرور عام، يصعب أن نفصل بين أثر الانفجار النفسيّ والأزمات الأخرى التي نعيشها لأنها زادته سوءا ،ولكن يمكننا أن نناقش أثر الانفجار بشكل خاص”.
ورأت أننا “حين نتعرض لصدمة نفسية جزء من شفائنا يكون من خلال مبدأ أن لدينا موارد نعتمد عليها ان كانت مادية او اجتماعية أو نفسية، لافتة الى أن “الانفجار وقع في وقت لم يكن لدى اللبنانيين أي موارد لإستيعاب وامتصاص الصدمة بسهولة بالرغم من الدعم المجتمعي الذي توفّر منذ اللحظة الاولى”.
وشددت شهاب على أن “صدمة ما بعد الانفجار تمثلّت لدى البعض بالرغبة في الهجرة التي زادت بشكل ملحوظ والتي أفقدت اللبنانيين دعماً معنوياً وإنسانياً ضرورياً يوفرّه لنا من حولنا، فقوتنا كمجتمع تكمن في دعم بعضنا البعض، لكن هذه البنية بدأت بالتآكل بعد الانفجار”.
وكشفت الشاب لـ”لبنان 24″ أن “في الأشهر الاولى بعد الانفجار لاحظنا على الضحايا أعراضاً حادة تدّل على قلة استيعابهم للصدمة. وفسّرت أن “أكثر أعراض ظهرت في البداية هي القلق الدائم hyper arousal أي أن عقلنا وجسدنا لا يستطيعان أن يعودا إلى وضعهما السابق، حيث يكون الجهاز العصبي كله في حال هيجان، ونكون حساسين: كل شيء يذكرنا بالانفجار، نعاني من صعوبة في النوم، نتوتر بسرعة، لا نستطيع التنفس بسهولة…
كما ظهرت على بعض الضحايا أعراض متطفلة intrusive symptoms مثل الكوابيس، والأفكار التي تفرض نفسها علينا رغما عنا وتذكرنا بالانفجار”.
اليوم بعد مرور عام صعب جداً، العامل النفسي المسيطر، بحسب الشاب، هو التجنّب. ويكون التجنب نوعاً ما خفيّاً فنتفادى كل ما يذكرنا بالانفجار أو نكبته: لا نتكلم أبداً عما حصل، لا نذهب الى المناطق المتضررة والمدمرة، منها المرفأ، لا نستطيع التعامل مع المشاعر التي تخالجنا عند الحديث عما ممرنا به ورأيناه.
وتابعت: “بعد الصدمة ينقسم الوعي إلى جزأين: العمل كالمعتادbusiness as usual، حيث نحاول فقط تجاوز اليوم بالقيام بأعمالنا المعتادة، وهذا الجزء مهدد من قبل الجزء الآخر وهو العاطفي الذي يحمل الصدمة والمخاوف والذي يكون مشحونا عاطفيا لدرجة أننا نشّكك في قدرتنا على التعامل مع المواقف الصعبة”.
ولفتت الى أنه “غالبًا ما يتعامل الأشخاص مع الصدمة من خلال الاستثمار المفرط في جزء الأعمال المعتادة business as usualلتجاهل العواطف والشعور أن الحياة تمضي قدما”.
ذكرى 4 آب ستشكل عاملا منبهاً للكثير من الناس، ويكمن أن تنتج مشاعر سلبية لمن يتجنب أو لا يملك القدرة على تخطي الصدمة، ويشعر بالغضب وخيبة الامل.
في هذا الاطار قالت الشاب إن “عدداً من الأمور تمنعنا من “استيعاب” الانفجار أولّها الخسائر البشرية وحالة الحزن الشديد والمستمر التي ترافقها، وكذلك الغموض الذي يلّف الانفجار وأسبابه، فلا إجابات للأسئلة الأساسية: لماذا؟ ومن؟ وكيف؟ والأهم هو عدم تحقيق العدالة حتى اليوم”.
وتختم الشاب متوجهة برسالة الى اللبنانيين قائلة: “الشفاء ليس عملية مستقيمة في مثل هذا النوع من المآسي ومن الطبيعي أن نشعر بالانزعاج في ذكرى الانفجار لصعوبة تخطي الموقف ولكن ما يمكن أن يساعد هو التعامل مع ذكرياتنا ومشاعرنا بلطف وتعاطف وصراحة. كما يمكننا الانضمام الى أصدقاء، عائلة، أو مبادرات تقدر مشاعرنا وفي الوقت نفسه تقدم إطارا بناءا للتعامل مع مشاعرنا ومن أجلها”.