على عكس المتداوَل، لم ينخفض الدولار بشكل مفاجىء. فمتابعة عملية البحث عن اسم يخلف سعد الحريري لتكليفه تشكيل الحكومة، عزَّزَ الخوف في السوق فارتفَعَ الدولار بعد اعتذار الحريري وصولًا إلى نحو 23500 ليرة. لاحقًا طُرِحَ اسم نجيب ميقاتي لتكليفه، فبدأت رحلة الدولار نزولًا، وتسارَعَت مع كل إشارة إيجابية باتجاه تسميته، فلامَسَ الدولار مستوى 16 ألف ليرة، يوم الاثنين 26 تموز، بعد أن كان قبل 24 ساعة، نحو 20 ألف ليرة. ومع تكليف ميقاتي، عادت الأمور إلى طبيعتها وعَبَّرَ السوق عن نفسه بصورة شبه صحيحة. ذلك أنه ومع كل رقم يسجّله الدولار في ارتفاعاته، إنما يعطي صورة مشوَّهة عن قيمته الحقيقية. ومع ذلك، عاد الدولار إلى الارتفاع مسجلًا يوم الثلاثاء نحو 18500 ليرة. فلماذا تحرك الدولار بهذه الطريقة، وهل مسار تشكيل الحكومة سيُخفِّض الدولار أكثر؟
انخفاض وهمي
تختلف النظرة إلى سعر الدولار الحقيقي، فالبعض يضعه عند مستوى 5000 ليرة، فيما يرفعه البعض الآخر إلى نحو 10 آلاف ليرة. ومع ذلك، فتحديد الأرقام ليس جوهر النقاش، بل العوامل التي تتحكّم بالسوق، وتؤدي إلى تحديد السعر الفعلي للعملة.
في السوق ثلاثة عوامل أساسية مؤثّرة، هي حسب الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي “العامل التقني والعامل النفسي والعامل المضارباتي”. تقنيًا، استقرار سعر صرف أي عملة، ينطوي على مراقبة تطور كتلتها النقدية الموضوعة بالتداول. وفي لبنان، “يجب مراقبة الكتلة النقدية المتاحة للتداول بالدولار والليرة”. والملاحظة توصلنا إلى حقيقة عرض كبير جدًا من الليرة في السوق مقابل طلب مرتفع على الدولار غير المتاح للتداول بالكميات المطلوبة، والتي تُوازِن كفَّتيّ العرض والطلب. وهذا يمثّل الخلل الأول في الحفاظ على استقرار الليرة.
العامل النفسي يتعلّق بـ”غياب الثقة. وهذا ما يدفع حاملي الدولار من غير المضاربين، إلى الاحتفاظ به وعدم عرض”. ويعزز غياب الثقة، وفق ما يقوله يشوعي لـ”المدن”، تناقص عرض الدولار بالتوازي مع تراجع حجم الكتلة النقدية بالليرة بسبب عدم قدرة المواطنين على دفع الرسوم والضرائب، وهي مداخيل أساسية للدولة التي تضطر إلى طبع المزيد من الليرة، وإفقادها قيمتها الشرائية، ما يرفع الطلب على الدولار لتأمين الحماية. وتراجع مداخيل الدولة يضعها أمام ضرورة تلبية استحقاقات مالية أساسية مثل الرواتب والأجور، وهو إنفاق ثابت بالنسبة للدولة، والحاجة لكتلة نقدية بالليرة “يتزايد بشكل دائم بمعدّل يقارب الـ500 مليار ليرة شهريًا”.
وعليه، فالعاملان التقني والنفسي لا يلعبان دورًا لصالح انخفاض الدولار بالوجه الذي حصل مؤخرًا. ليبقى العامل الثالث والحاسم، وهو المضاربة. ويدعم يشوعي خيار المضاربة كسبب للتحول المفاجىء في سعر الصرف، فـ”هكذا يتم التحكم بالسوق”.
أبعد من الشكيل
انخفاض سعر صرف الدولار حصل في وقتٍ لم يكن فيه الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة قد سُمّيَ بعد. ما يؤّكد وجود أيادٍ تتحكّم بسعر الصرف بما يشبه “كبسة زر”. وهو ما يُثبت غياب علاقة العرض والطلب عن تحديد السعر. بمعنى آخر، يحدد المضاربون سعر الصرف على هواهم ووفق ما يخدم مصلحة المنظومة الحاكمة سياسيًا ومصرفيًا. فالمصارف هي المشتبه به الأساسي في التلاعب بسعر صرف الدولار، خاصة وأن عددًا منها يشتري مرارًا الدولار بأعلى من سعر المتداوَل به في السوق.
مع تكليف ميقاتي، تَحَوَّلَت الأنظار إلى ما يمكن للحكومة المقبلة القيام به. من ناحيته يريد ميقاتي تشكيل حكومة اختصاصيين (تكنوقراط) للايحاء بأن أداءه يختلف عمّن سبقه لرئاسة الحكومة. لكن الوقائع تضع تحدّياتها قبل التأليف. فالحكومة المقبلة ستواجه نسبة بطالة مرتفعة تفوق الـ50 بالمئة، الفقر يتزايد وصولًا إلى التحذير من انزلاق أكثر من ثلثي اللبنانيين في مستنقع الفقر، وغرق البعض تحت خط الفقر. إلى جانب تراكم الدين العام المتزايد وصولًا إلى نحو 97.26 مليار دولار، فيما بلغ قبل انفجار الأزمة في العام 2019، نحو 86 مليار دولار، وكان في العام 2018، نحو 79.5 مليار دولار، أي بنسبة 152.8 بالمئة من الناتج المحلي، وهو ثالث أكبر نسبة دين عام في العالم بعد اليونان، وفق أرقام صندوق النقد الدولي.
لن تستطيع حكومة ميقاتي معالجة الاختلال على المستويات الاقتصادية والنقدية والمالية والصحية والاجتماعية وعلى مستوى القطاعات الانتاجية. ناهيك بمعالجة أزمة المحروقات والتهريب. فكيف بمعالجة المضاربة على سعر صرف الليرة. والقصور الذاتي عن معالجة الأزمات، يرافقه ضغط خارجي حيث تتصارع القوى الإقليمية والدولية وترمي بظلال صراعاتها على لبنان.
ووسط عدم قدرة الحكومة على التأثير الإيجابي على سعر صرف العملة مقابل الدولار، يغيب دور مصرف لبنان الذي يفترض به استباق الأزمة وعدم انتظار مسرحيات التكليف والتأليف، حيث يُناط بالمصرف المركزي “ضمان استقرار النقد وتقلّب سعر صرف الليرة ضمن هوامش معينة، منها مثلًا، الصعود والهبوط بنحو 200 إلى 500 ليرة. وضمان الاستقرار يأتي من خلال تدخّل المركزي في البيع أو الشراء بحسب صعود أو هبوط العملة”. ومفهوم الاستقرار يختلف تمامًا عن تثبيت سعر صرف الليرة الذي انتهجه سلامة والمنظومة، وأوصلتنا إلى ما نحن عليه.
إن كانت المضاربات هي الوسيلة التي تستعملها المنظومة للتأثير على سعر صرف الدولار خدمةً لمصالحها، فهذا يعني أن على حاملي الدولارات من المواطنين غير المنخرطين في لعبة المضاربات، الحرص على ما أمكن من دولاراتهم، لأن الانخفاض الحاصل حاليًا هو انخفاض وهمي لا يعبّر عن حقيقة السوق.
المصدر : المدن – حضر حسان