تسير مناقشات تأليف الحكومة وفق ما ترجو “دول الحصار”. إنسيابية وسرعة وكثافة في التنقلات واللقاءات وعوامل إيجابية تعوم وتسبح. ربطاً بذلك، يُفترض أن أيام المشاورات اللاحقة ستُظهر مدى انعكاس التأثير الخارجي على عملية السير سريعاً بالحكومة.
صحيح أن المشتغلين في الملف ما برحوا يتحدثون عن إيجابيات ويشيّعون أجواءً مفعمة حيوية، مردودة إلى نشاط لافت يشهده خط بعبدا ، لكن يبقى أن الحقيقة غالباً ما تتخفّى في بطن “الشاعر” لا في نصوص القصائد!
تقدّم رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي ، إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، بـ”صيغة ورقة” حيال شكل التوزيعة قبل يومين، وقد تركا الإتفاق عليها أسير اللقاءات التي سيُجريها الرئيس المكلّف مع رئيس الجمهورية في بعبدا، تاركاً للرئيس أن يأخذ وقته في “تقليب” التشكيلة ووضع الملاحظات عليها للعودة ومناقشتها لاحقاً من خلال زيارات يومية يُجريها المكلّف، يُخشى أن تأخذ في دربها الكثير من علامات الحيوية وتعرّض المسار إلى “روتين” غير مرغوب وقد يفرض نفسه لاحقاً.
يُفهم من ذلك ان البحث في التأليف دخل “منطقة الألغام” وأمرها مشرّع على تفاهمات تتجاوز بعبدا وتتوزع في تأثيراتها ، بين صروح عدة لا تعدّ ميرنا الشالوحي أو بيت الوسط بعيدتين عنها. تصبح “الدعسة” هنا، أي دعسة، مفتوحةً على احتمالات شتى توجب دراسة أي خطوة قبل اتخاذها.
يتبيّن من خلال التسريبات، أن التشكيلة التي وضعها ميقاتي تقوم على توزيعة طائفية من 24 مقعداً، ثبّت فيها مجموعة حقائب لصالح طوائف ولم يكن فيها أي وزير دولة، وهو ما يُخالف ضمناً التفاهمات الأساس التي جيئت بميقاتي، وتقوم على تزكية تشكيلة تكنو-سياسية. محيط الرئيس المكلّف يتحدث عن إسقاط ميقاتي لفكرة هذا النوع من التشكيلات، ويتذرع بالتوافقات التي تم ترتيبها خلال المرحلة الأخيرة التي سبقت خروج الحريري من المضمار، ويشير إلى أنها نشأت من خلال “التفاهمات” المبرمة داخل “نادي الغولف” –وفق مصطلح وليد جنبلاط- وليس تلك التي أُخذت في الإعتبار كسبب لمجيئه، وهو ما يمثل خطورة على مستقبل استمرار ميقاتي في التكليف والتأليف. في المقابل، ثمة طر ف “خبيث” يشير إلى أن ميقاتي “الحربوق” بدأ في تقديم تشكيلة “ميتة سريرياً”، لعدم إغضاب من يغطيه سنياً والتزاماً منه بالمواصفات التي حُددت في “لقاء الأربعة” وهو على يقين تام أنها “لن تمشي” ، ما سيبرّر انتقاله لاحقاً إلى البحث في تشكيلة “أكثر حيوية”.
من خلال محاكاة التشكيلة التي وضعها ميقاتي في بعبدا، يظهر أن رئيسا الجمهورية والحكومة المكلّف، غدا كلّ منهما أسيراً للحريري وإن في نسب متفاوتة. فالرئيس المكلّف، عاد في تشكيلة تشبه إلى حدٍ كبير تلك التي وضعها الحريري في آخر زيارة سبقت اعتذاره إلى قصر بعبدا ، مع اختلافات محدودة تتمثل في تقليب بعض المراكز من حيث التوزيع الطائفي. بدوره الرئيس عون ، يبدو أن لديه نزعة في العودة إلى الإتفاق الذي أُبرم والحريري ، في مستهل دخول الأول شوط التأليف قبل 9 أشهر، بمعنى أدقّ رغبة عون، في إعادة إحياء اتفاق تبادل وزارة الداخلية بالخارجية بين المكونين السُني والماروني وعدم جواز وضع حقيبتين متلازمتين تقنياً في يد جهة واحدة، والمقصود العدل والداخلية.
في حالة التعمّق، يتبين أن الطرفين، وخلال شوطين من عمر بحث التكليف المستجد، قائمان على حفظ حقوق مرجعيتين سياسيتين وطائفيتين أساسيتين: ميقاتي قائم على رؤية الحريري وعون ملزم حفظ نظرة باسيل، وهو مستعد لإشهار “الفيتو” نيابةً عنه، عطفاً على أن رئيس “التيار الوطني الحر” قد قال في آخر مقابلة صحافية معه “أنه ورئيس الجمهورية واحد”.
في قضية “الداخلية”، والتي يُفسّر البعض “الرك” عليها من كونه نابعاً ليس من خلفيات إنتخابية فقط، إنما لمسائل تتصل بالإشراف على الأمن الداخلي وحفظ رؤوس الحاشية حين يُتاح للقضاء الضرب بيد من حديد، يتدلّى طيف الحريري ويلزّم ميقاتي الذود عنه. ويتردّد أن ميقاتي وعملاً بمفهوم الإتفاق الضمني بينه وبين الحريري والذي أجاز له مدّه بالغطاء السني الكامل في الإستشارات النيابية، توكّل أن يذهب التمثيل السُني على الداخلية إلى شخصية تحظى برضى رئيس تيّار “المستقبل”، إن لم يكن قد سمّاها سلفاً، وهو تماماً ما يعمل عليه عون بدوره، الذي لن يخرج عن طبيعة التسمية التي يفضلها باسيل إلى المركز، في حال ذهابه إلى الكتلة المسيحية.
أحد المراجع المطلعين على فحوى ما يدور، يؤكد أن وزارة الداخلية، قد خرجت عملياً من نفوذ عون و ميقاتي، إستناداً إلى الحركة المستجدة الظاهرة وبناءً على ما يتسنّى معرفته من نقاشات، وأنهما يتفاوضان عليها بالوكالة عن غيرهم، معتقداً أن هذه الحقيبة التي سيكون لها مفتاح إعلان ولادة الحكومة من عدمه، وستفرض تأثيرها على مسار النقاشات بأكمله، إلى جانب أنها تمثل حالياً مركز استقطاب لأكثر من قوة داخلية وخارجية، وهو ما أسهم في إخراج حقائب مثل الإتصالات والخارجية من منطقة الإهتمام على غير ما جرت عليه العادة خلال السنوات الماضية، وهو ما يفسّر أهمية الوضعية الداخلية على ما عداها.
مع ذلك كله، تبرز عوامل إيجابية ناح المشاورات التي لا تُخاض فقط في قصر بعبدا أو “نادي الغولف” إنما في مقار مختلفة ومتباعدة جغرافياً، وهذا إنما نابع من فكرة تراود أكثر من طرف داخلي وتقوم على استغلال الحاجة إلى حكومة و “التسهيل المفروض” دولياً، إنما هذا لا يعني بالضرورة أن تؤلف الحكومة ضمن “المهلة” التي يُحكى عنها (والتي لا تجد من يؤكدها رسمياً) أي خلال 4 آب، بفعل دقة النقاش حول أمور مختلفة منها برنامج الحكومة الذي لم يغب عن مداولات بعبدا، وهذا لا يعني أبداً أن ميقاتي أجاز لنفسه مهلة مفتوحة.
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح