بين العنصر النفسي والعنصر التقني وعنصر المضاربة، تدور السوق المالية في «دويخة» تقلبات سعر الدولار.
وأما العنصر النفسي فسيبقى مستمرا ما دامت الأزمات السياسية تتوالى الواحدة تلو الأخرى، وحتى لو جرى التكليف بانتظار التأليف الذي ولو حصل فسيبقى الرهان على مدى الانسجام بين الأطراف اللبنانية المتصارعة والمتنافسة على المغانم، وعندها لن يكون انخفاض سعر الدولار إلا بشكل محدود يبقي الوضع المالي والنقدي والاقتصادي على حد السيف، لا سيما إذا تزامن مع هذا العنصر تداعيات أمنية تزيد في هواجس المواطن حول مستقبل الاقتصاد ومصير البلد.
وأما العنصر التقني المتحكم فيبقى في الحقائق الماكرو اقتصادية التي تفرض نفسها على سعر الصرف وفي طليعتها: حجم التحويلات الاغترابية، ونسبة العجز في الميزان التجاري وبالتالي ميزان المدفوعات وصولا الى الأرقام الأخيرة للحساب الجاري، وكمية المساعدات والهبات النقدية إذا وجدت، وحجم الاستثمارات ومعدلات النمو السنوية، ومدى القدرة التنافسية للاقتصاد في الأسواق الخارجية والعديد من العوامل الفرعية التي ما دامت على حالها، يبقى هذا العنصر التقني فاعلا في تحديد سعر صرف الدولار الذي ما دام يتقلب الى ارتفاع ستبقى إمكانية تحوّله الى انخفاض مرهونة بأي تغيّرات أساسية حالية ومستقبلية.
وأما العنصر الثالث أو المضاربة، فبقدر ما لديها من أدوات اللعب على الوترين النفسي والتقني وتحييد تأثيرهما في السوق المالية، ستبقى لها القدرة على رفع سعر صرف الدولار بما يشجع على الاحتفاظ به وتخزينه أو خفض السعر ولو بصورة مؤقتة بغرض خلق هاجس لدى مدّخريه في المنازل والمخابيء يدفعهم الى الإسراع – وربما التسرّع؟! – الى بيعه خوفا من المزيد من الانخفاض، وهذا ما يحصل الآن لا سيما خلال الأيام الأخيرة التي أعلن فيها عن التكليف الحكومي بانتظار الدخول في معمعة التأليف التي تبدو طويلة المدى في غمرة خلافات سياسية محلية وضغوطات اقليمية ودولية.
ويبقى أخيرا سؤال أساسي: لماذا كل هذه العناصر الثلاثة باتت تفعل فعلها الى هذا الحد الخطير في لبنان وبصورة باتت حياة اللبنانيين وسبل معيشتهم متعلقة بها فقرا أو انتعاشا، ولم تكن فاعلة قبل الآن كما هي الآن؟
الجواب البديهي ان السلطة النقدية على مدى الثلاثين سنة الأخيرة كانت هي التي تتحكم بسوق القطع بما كان لديها من الاحتياطيات العالية بالعملة الأجنبية التي تمكنها من التدخّل لضرب أيدي المضاربات أو لتحييد سعر الصرف الثابت عن تأثيرات الداخل والخارج، ولو بثمن باهظ أحيانا في التخلي عن أجزاء من الاحتياط بغرض الحفاظ على استقرار السعر والقوة الشرائية للعملة الوطنية.
هكذا مثلا بقي سعر صرف الليرة اللبنانية على حاله برغم مفارق وأزمات سياسية وأمنية خطيرة مثل حرب حزيران ومسلسل الاغتيالات وطول المدة التي استغرقت لتأليف حكومات أو انتخاب رئاسات، وصولا الى الفترة الحرجة والصعبة في اشتعال الحرب السورية التي تحوّل فيها فائض ميزان المدفوعات الى عجز تخطى أحيانا الـ١٠ مليارات دولار، وما تلاها من أزمات مصرفية ومالية واقتصادية أدّت الى الانهيار الكبير في الاحتياطات الأجنبية لدى السلطة النقدية، ولم تنفع للحد منها هندسات مالية مؤقتة، انتهت بفلتان السوق المالية وجنون أسعار الصرف ومعها أسعار الحاجات المعيشية والاستهلاكية، ودون أن يكون لدى السلطة المالية أي احتياطيات تحرق بها أيدي المضاربات أو تحيد بها أسعار الصرف عن التغيّرات والتقلبات.
والأرجح أن الوضع النقدي وأزمة سعر الصرف ستبقى الى أمد كبير تحت رحمة العوامل الثلاثة: النفسية والتقنية والمضاربات – لا سيما مع توقف الودائع والاستثمارات ومحدودية التحويلات – لغاية الفترة التي يشهد فيها لبنان مرحلة جديدة من التمويلات والتحويلات سواء بشكل قروض أو مساعدات.
وبالانتظار سيبقى كل شيء على عهدة المثل القائل: ما تقول فول ليصير بالمكيول!
المصدر : ذو الفقار قبيسي – “اللواء”: