يتحضّر السكان في لبنان، من مواطنين ونازحين، والمُنْهَكون جراء طوفان الأزمات المتولدة من رحم انهيار العملة الوطنية وتآكل المداخيل والمدخرات، للانتقال إلى امتحانٍ معيشي غير مسبوق في مرارته وعسرته، سيشكل اختباراً بـ «اللحم الحيّ» للقدرة «على البقاء» في ظروفٍ أقرب الى «المستحيل».
فمع ندرة توافر الأدوية وتحوّل بعض المستشفيات الكبيرة والعريقة شبه مستوصفات يقتصر نشاطها على التقليل من المَخاطر المُرافِقة للحالاتِ الطارئة من دون استكمال معالجتها، ومع استمرار الشح الشديد في مادة البنزين، تلوح في المدى الوشيك جداً، والمرجح قبل نهاية الشهر الحالي، سلسلة لا تنتهي من المخاوف الجدية جراء شبه انقطاع مادة «الديزل أويل» (المازوت)، ونُذرها التسبب بوقف خطيرٍ لإمدادات الخبز والمياه، فضلاً عن شبح العتمة الشاملة في ظل الارتفاع الصاروخي لتكلفة التزود بالتيار الكهربائي عبر المولدات الخاصة (تعمل على المازوت) التي يهدد أصحابها بإطفائها كلياً خلال أيام بعدما استنفدوا مخزونهم من المحروقات.
وبدا طغيان هذه الهموم المتراكمة حاكماً لتصرفات الموطنين الذين يسارعون الى تخزين ما تيسر من المواد الغذائية والاستهلاكية على قدر ما اختزنوا من «القرش الأبيض»، وهو ادخارٌ ضئيل لدى الغالبية، وإمكاناته شبه معدومة لدى أكثر من ثلثي اللبنانيين الذين انخرطوا تباعاً ضمن فئتي الفقر والفقر المدقع. وما زاد الهوة بين الامكانات المتاحة والمتطلبات الملحة، ضم عناصر الأكلاف الإضافية للسلع، من نقل وتخزين وعمالة إلى التسعير بالدولار وتقلباته، مع حفظ هامش واسع للترقبات في المنحى الصاعد لا النازل، بحيث أن غالبية أسعار السلع، غذائية كانت أم استهلاكية تحاكي عتبة 25 ألف ليرة للدولار، فيما تدنى سقفه في السوق الموازية عن 21 ألف ليرة.
ولم تسأم المنظماتُ الدولية والانسانية من تكرار التحذير الصارخ من خطورة الانزلاق السريع للبلاد ومعيشة سكانها باتجاه نواة أتون «الجحيم» الموعود. وقد جاهرت نائبة المنسقة الخاصة والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في لبنان، نجاة رشدي، بأن «الناس عاجزون عن توفير احتياجاتهم الغذائية الأساسية ويستبدلون الوجبات الصحية بخيارات أرخص غير صحية، مما يهدد أمنهم الغذائي»، مبيّنة «انّ اللبنانيين، الذين لطالما عُرفوا بضيافتهم وسُفَرهم الغنية، مهددين اليوم بحقهم بالحصول على الغذاء الكافي بسبب الارتفاع المستمر في أسعار السلع نتيجة الأزمات المتلاحقة في البلاد».
ونوهت رشدي خلال مداخلتها في حوار افتراضي حول النظم الغذائية للاسترشاد به في قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية الأولى من نوعها على الإطلاق والمزمع عقدها في نيويورك في سبتمبر الجاري، بأن الأمم المتحدة في لبنان «تعمل على بناء القدرة الغذائية على الصمود في مواجهة مكامن الضعف على مستوى الفرد والمجتمع والنظام. ذلك ان تحسين النظم الغذائية يمنع نشوء النزاعات ويساهم في تحقيق الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة أي القضاء التام على الجوع. كما من شأنه أن يدعم الأشخاص الأكثر فقراً، وأولئك الذين يعتمدون على الزراعة لكسب عيشهم».
من جهتها، أشارت منظمة «اليونيسف» إلى أن «أكثر من أربعة ملايين شخص، من بينهم مليون لاجئ، يتعرضون لخطر فقدان إمكان الحصول على المياه الصالحة للشرب في لبنان». ولفتت، في بيان لها، إلى أن «هذا الخطر يتزامن مع التفاقم السريع للأزمة الاقتصادية ونقص التمويل وعدم توافر المحروقات وإمدادات أساسية مطلوبة مثل الكلور وقطع الغيار»، حيث تقدر المنظمة أن «غالبية محطات ضخ المياه ستتوقف تدريجاً في مختلف أنحاء البلاد في غضون أربعة الى ستة أسابيع مقبلة».
وأكدت ممثلة «اليونيسف» في لبنان، يوكي موكو «إن افتقار الوصول الى إمدادات شبكة المياه العامة قد يجبر الأسر على اتخاذ قرارات صعبة للغاية في ما يتعلق بحاجاتها الأساسية من المياه والصرف الصحي والنظافة. فقطاع المياه في لبنان يتعرض للخراب والدمار بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية التي يمر فيها لبنان، وهو غير قادر على العمل بسبب عدم قدرته على دفع كلفة الصيانة بالعملة الأجنبية، بالدولار، وخسارة المياه الناجمة عن فاقد المياه، الذي يتزامن مع انهيار شبكة الكهرباء، ومخاطر ارتفاع كلفة المحروقات».
وفي حال انهيار منظومة شبكة إمدادات المياه العامة، تتوقع «اليونيسف» ارتفاع كلفة حصول الأسر على المياه بنسبة 200 في المئة شهرياً جراء لجوئها إلى مورّدي المياه من مصادر خاصة، ما يشكل كلفة باهظة جداً لكثير من الأسر من الفئات الأكثر ضعفاً في لبنان، إذ تقدر قيمتها بـنحو 263 في المئة من متوسط الدخل الشهري. وسيكون لهذا التطور السلبي تأثيراً فورياً وضرراً هائلاً على الصحة العامة، حيث ستتعرض النظافة للخطر، وسيشهد لبنان زيادة في الأمراض وستواجه النساء والشابات المراهقات تحديات خاصة في النظافة الشخصية والحماية والكرامة نتيجة حرمانهن من الحصول على مرافق صحية آمنة.
ووفق اليونيسف «تقدّر الحاجة الملحة الى 40 مليون دولار سنوياً للحفاظ على تدفق المياه بشبكة المياه العامة إلى أكثر من أربعة ملايين شخص في أنحاء البلاد كافة، التي بتوافرها سيكون متاحاً تأمين الدعم اللازم للحفاظ على حماية وتشغيل مرافق المياه العامة من خلال تأمين الحد الأدنى من كلفة المحروقات، وتوفير الكلور لتعقيم المياه، وتأمين قطع الغيار والصيانة اللازمة للحفاظ على سير عمل أنظمة المياه الحيوية وضمان الوصول بشكل آمن لتشغيل منظومات المياه العامة».
وفي الوقائع الميدانية المستجدة، حذر اتحاد المخابز والأفران من أزمة رغيف على الأبواب اعتباراً من الأسبوع المقبل بسبب فقدان مادة المازوت حيث ستضطر بعض الافران والمخابز للتوقف بعد نفاذ الاحتياط المتوافر لديها من هذه المادة، في حين أعلنت مديرية النفط عن نفاذ هذه المادة لديها، علماً ان مادة المازوت متوافرة في السوق السوداء بسعر 140 الف ليرة للصفيحة الواحدة (أي بأكثر من ضعفي سعرها الرسمي).
وحذرت نقابة أصحاب السوبرماركت من «انقطاع مادة المازوت وعدم قدرة هذا القطاع الحيوي على الحصول عليها، لما لذلك من تأثير سلبي على سلامة المواد الغذائية التي تحتاج الى تبريد»، ولا سيما أن «الكثير من المواد الغذائية الموجودة في السوبرماركت بحاجة الى برادات وأخرى الى درجات حرارة منخفضة نسبياً، ولذلك فإن إنقطاع كهرباء الدولة وتوقف مولدات السوبرماركت عن العمل بسبب عدم وجود مادة المازوت سيؤدي حتماً الى الإضرار بسلامة المواد الغذائية».
وأعلن نقيب أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري طوني الرامي حال الطوارئ السياحية، في ظل فقدان مادة المازوت حتى في السوق السوداء، محذراً من إقفال المؤسسات السياحية أبوابها خلال الـ 48 ساعة الآتية، ومنوّهاً بأن الكهرباء والمولدات هما حاجتان أساسيتان للمؤسسات المطعمية للمحافظة على المواد الأولية وسلامة الغذاء وللتحضير لوجبات الغداء والعشاء. وإذا اضطر الأمر سيلجأ أصحاب المؤسسات المطعمية إلى الاعتماد على واحدة من الوجبتين إما الغداء أو العشاء، ما سيؤدي حتما إلى كارثة.
كماحذّر رئيس نقابة العاملين والموزعين في قطاع الغاز ومستلزماته فريد زينون، من فقدان قوارير الغاز من الأسواق، وذلك جراء فقدان مادة المازوت التي تعمل على أساسها آليات موزّعي الغاز. وطالب وزارة الطاقة بتأمين هذه المادة واستثناء الموزّعين وإعطائهم مادة المازوت ليستمر التوزيع في كل لبنان، وإلا سنكون أمام مشكلة أساسية جديدة تواجه اللبنانيين في حياتهم، خصوصاً أن مادة الغاز من الحاجات الأساسية.
المصدر : الراي الكويتية