وقفت الحصانات السياسية والطائفية في وجه العدالة، وتكرّس نهج الإفلات من المحاسبة حتى في قضية على هذا القدر من الحساسية والوضوح.
منذ بدء التحقيقات في ملف انفجار مرفأ بيروت، حالت الحصانات حول نواب ووزراء وأمنيين دون اكتمال مسار التحقيق في الجريمة التي تقترب ذكراها الأولى وسط تمييع واضح للعدالة.
الحصانة بدت كعصا غليظة في وجه أهالي الضحايا الذين لم يكلّوا من الاحتجاج اعتراضاً على رفض وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي طلباً قدمه المحقق العدلي طارق البيطار في القضية لاستجواب مدير عام الأمن العام عباس إبراهيم.
مجدداً، وقفت الحصانات السياسية والطائفية في وجه العدالة، وتكرّس نهج الإفلات من المحاسبة حتى في قضية على هذا القدر من الحساسية والوضوح. ففهمي، الذي واجه حرّاسه أهالي الضحايا بالغاز المسيل للدموع، يصرّ على عرقلة مسار التحقيقات والدفاع عن المرتكبين والمُدّعى عليهم. إذ أكّد في حديثٍ لصحيفة “الشرق الأوسط” قناعته وتمسّكه بـ”قانونيّة” خطواته. أتى ذلك بعدما فرّ الوزير من منزله في قريطم إلى منطقة اليرزة مع عائلته يوم الثلاثاء في 13 تموز/ يوليو.
قانونياً، أُحيل طلب إذن ملاحقة اللواء عباس إبراهيم إلى النائب العام لدى محكمة التمييز غسان عويدات الذي يملك 15 يوماً ليوافق على طلب القاضي طارق بيطار، منذ تاريخ حصوله على الطلب. وإذا لم يرفض عويدات طلب القاضي ضمن المهلة هذه، تعتبر موافقته ضمنيّة، وبالتالي تُرفع الحصانة. ووفق المحامي أيمن رعد، فإن للمسألة تفسيرين قانونيين وكلاهما راجح، الأول هو أن غسان عويدات تنحّى عن ملف المرفأ بسبب القرابة التي تربطه بوزير النقل الأسبق غازي زعيتر، وبالتالي لا صلاحية له لإعطاء الإذن بالملاحقة. وعليه، يعود القرار تلقائياً إلى النائب العام التمييزي غسان خوري. أما التفسير الآخر، فيقول إن عويدات تنحّى بصفته مدعياً عاماً عدلياً، ولم يتنحَ عن مركزه كمدعي عام التمييز، وبالتالي الإجابة أو عدمها خلال 15 يوماً منتظرة منه.
ويُشير رعد إلى أنه في حال الرفض رسمياً، “لا طريقة قانونية لمقاضاة المرتكبين”، إلا أنه يؤكد أن من حق القاضي بيطار تقديم طلب آخر مع مستندات وإثباتات جديدة لوزير الداخلية، “لأنه قرار إداري وتمكن مراجعته”.
الحصانات كدرع سياسي…
الحصانات، التي يعود أساسها إلى ما بعد الحرب الأهلية والتي هدفت إلى حماية المتورطين من المحاكمات، استُغلّت سياسياً في لبنان على مدى سنوات طويلة واستخدمت كدرع لحماية سياسيين وأمنيين لتجنيبهم المحاسبة. آخر فصول الاستغلال السياسي كان في آذار/ مارس 2021، حين رُفض طلب إذن ملاحقة مدير عام الأمن الداخلي عماد عثمان المتعلّق بقضية تراخيص تمنحها مديرية الأمن الداخلي لحفر آبار ارتوازية.
أعاد ملف انفجار مرفأ بيروت قضية إسقاط الحصانات كلياً عن أصحابها، لا رفعها فقط، عن أمنيين وسياسيين إلى الواجهة. لا سيما أن منظمة “العفو الدولية” علّقت على أداء السلطة اللبنانية وطالبت برفع الحصانة عن “مسؤولين كبار”، معتبرة أن الامتناع عن ذلك يعدّ “إعاقة للعدالة”.
ووفق رعد، هناك 4 أنواع من الحصانات في القانون اللبناني. أولها الحصانة النيابية، إذ لا تجوز ملاحقة النواب جزائياً خلال مدّة انعقاد دورات المجلس النيابي وفقاً للمادة 39 من الدستور، ووفقاً للحرمة الشخصية المنصوص عليها في المادة 40 منه، إلا أنّ ذلك ممكن خارج إطار الدورات بإذن من المجلس النيابي. ثانيها، حصانة الموظفون في الأسلاك الأمنية والإدارية. إذ يستوجب استدعاء موظّف، إن كان في السلك الإداري أو الأمني أو الموظفين الآخرين، الحصول على إذن من رئيسه التسلسلي. وفي حال لم يأتِ الإذن، يُحال الموضوع إلى النيابة العامة التمييزيّة، وفي حال لم ترد خلال 15 يوماً يُعطى الإذن تلقائياً، وهو ما حصل في حالة الوزير محمد فهمي. ثالثها الحصانة النقابية، فوفقاً للمادة 79، فإنّ المحامي لا تمكن ملاحقته جزائياً إلا في حالة الجرم المشهود. ولا تمكن ملاحقته إلا بعد أخذ الموافقة من مجلس النقابة. وفي حال إضراب النقابة كما هو حاصل اليوم، قد يقوم مجلس النقابة باستثناء بعض الحالات من الإضراب والسماح للمحامين بممارسة مهماتهم، وعندها بإمكان مجلس النقابة رفع الحصانة عن الوزير السابق يوسف فنيانوس (في نقابة المحامين في الشمال) والوزيرين السابقين غازي زعيتر وعلي حسن خليل (في نقابة المحامين في بيروت). ويُشير رعد إلى أن “البتّ إيجاباً بملاحقة الأسماء الواردة سيأتي قريباً، خصوصاً أن الفعل حصل خارج مهنة المحاماة”.
وأخيراً، الحصانة الوزارية. إذ يُحاكَم رئيس الحكومة والوزراء أمام المحاكم العاديّة في حال الخيانة العظمى. وفي حال الإخلال بالواجبات، يُحاكَمون أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ويكون رئيس الحكومة، كما الوزير، خاضعاً لاتّهام مجلس النواب، علماً أنّ الأخير ليس حاسماً بعد في موضوع حسم الاتهام.
“كلنا ضحايا”
منذ انفجار 4 آب، أطلقت نقابة المحامين مبادرة عبر إنشاء مكتب ادّعاء لتسهيل رفع دعاوى على السلطة المتورطة بمعرفة وجود المواد المتفجرة في العنبر رقم 12. إلى الآن، يقول المحامي أيمن رعد إن “عدد الشكاوى بلغ الألف شكوى”، مؤكداً أن “عدد المتقدمين بشكاوى يجب أن يكون 6 ملايين شخص في وجه المنطومة، على اعتبار أننا كلنا ضحايا وليس أهالي الذين قضوا فقط”.
يُشير رعد إلى أن “حصر القضية بأهالي الضحايا باعتبارهم فئة معيّنة يضعّفها، في حين أن هناك آلاف المتضررين مادياً وجسدياً من الانفجار”. مؤكداً أن الدعاوى المشتركة تدعم المحاسبة إذا تمكّن المحقق العدلي بالملف من التوصل إلى نتيجة.
على المنحى المقابل، أعطى رئيس الجمهورية ميشال عون موافقته الاستثنائية على اعتبار يوم 4 آب يوم حداد وطني، لذكرى انفجار مرفأ بيروت، في خطوةٍ تتناقض مع مواقفه الحالية المتعلّقة بمسار التحقيقات. إذ يشغل رئيس الجمهورية منصب رئيس المجلس الأعلى للدفاع، وتتبع مديرية أمن الدولة إدارياً لهذا المجلس، ما يعني أنّ لدى عون الصلاحية لرفع الحصانة عن مدير عام أمن الدولة اللواء انطوان صليبا غير أنّه لم يرفعها بعد، تاركاً التحقيق مع صليبا مُعلَّقاً. كما لا تزال إقالة مدير عام الجمارك بدري ضاهر معلَّقة، مع امتناع عون عن التوقيع على مرسوم إعفائه من الخدمة. هذا عدا أن الرئيس استلم تقريراً من أمن الدولة يُعلمه بوجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت قبل أسابيع من انفجارها، ولم يتحرّك.