لم تتناسب يومًا الأسعار النهائية للمواد الغذائية مع سعر صرف الدولار، إذ كانت أعلى، حتى في زمن تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة. فالاحتكار والتخزين والتلاعب رافق تحديد الأسعار، وسط إغفال مقصود ومستمر لرقابة الدولة. ومع انفلات سعر صرف الدولار مع استفحال الأزمة في لبنان، سَبَقَت أسعار المواد الغذائية سعر الصرف بما لا يقل عن 1000 ليرة، فإذا كان سعر الصرف 10 ألف ليرة، فمعدّل تحديد أسعار السلع يكون على الأقل وفق سعر صرف 11 ألف ليرة. ومع كل ارتفاع للدولار يزيد هامش تحديد الأسعار بحجة استباق الارتفاع الاضافي وتلافي الخسارة.
وصلت الأمور إلى خواتيمها. فالحلول الجزئية لم تنفع، وفي مقدّمتها سياسة الدعم الفاشلة على مستوى استفادة المواطنين، والناجحة على مستوى استفادة كبار التجّار الذين وَجّهوا الدعم بما تشتهيه سفنهم. ومع إقرار الدعم، لم يجد المواطنون المواد الغذائية المدعومة إلاّ نادرًا، وبكميات غير كافية، ما خلق أجواءً مشحونة أدّت في الكثير من المناطق إلى تعارك بين المواطنين للحصول على كيس سكّر أو غالون زيت.
وفي خضّم التجربة الفاشلة، طالبَ المستوردون وتجار المواد الغذائية وأصحاب السوبرماركت، بالسماح لهم بتحديد أسعار السلع بالدولار بشكل مباشر، بدل إجراء حسابات تأخذ بالاعتبار الارتفاع المتكرر للدولار، ما يضطرّهم إلى عدم وضع الأسعار النهائية على الرفوف، بل تحديدها على الصندوق داخل النظام الآلي لتحديد الأسعار وفوتَرتها. وباعتماد الدولار، يضعون السعر النهائي على الرفوف ويجري آليًا على الصندوق، احتساب فارق السعر، حسب سعر الصرف اليومي.
على مدى الأزمة وصعود الدولار، لم توافق وزارة الاقتصاد ولا الحكومة اعتماد الدولار لتحديد السعر النهائي للمواد الغذائية. فيما واصَلَ التجّار مطالبتهم. ومنذ نحو أسبوع حذَّر نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي من “الوصول إلى تسعير المواد الغذائية بالدولار”.
وصلنا إلى مرحلة اللاعودة في ظل انسداد أفق الحل الحكومي الذي ينسحب على أفق الدعم الخارجي، المرتبط أولًا بتشكيل بتشكيل حكومة، وثانيًا باجراء الإصلاحات. فلا الحكومة شُكِّلَت ولا الإصلاحات ستُطَبَّق، ما يعني أن لبنان متروكٌ لمصيره. ومصيره معلَّق بالدولار.
وفي هذه المرحلة، تخطّى الدولار الـ23 ألف ليرة، ما حذا بأصحاب السوبرماركت إلى إقفالها، ريثما تثبت أسعار الدولار على رقم محدّد، ليعرف الباعة على أي سعر سيبيعون بضائعهم. وبعض الباعة أكّدوا في حديث لـ”المدن” أنّهم لن يفتحوا أبواب محالهم قبل أن تسمح الدولة باعتماد الدولار لتحديد الأسعار “فنحن لا يمكننا تحمّل خسائر إضافية بسبب بيعنا للمواد بسعر، وبعد أقل من ساعة ترتفع الأسعار، فنضطر للشراء وفق السعر المرتفع”. ويشير أحد أصحاب السوبرماركت إلى أن “فارق السعر يسري على البضاعة الموجودة في المخازن. فبالتأكيد نحن لا نبيع كامل مخزوننا بيوم واحد، لكن لا يجري احتساب المعادلة وفق البيع ليوم واحد. فالبضاعة المخزّنة، ستُباع بعد أيام أو أسبوع وفق السعر المرتفع، ويُخَيَّل للبعض اننا حققنا ربحًا اضافيًا. لكن ماذا بعد نفاد المخزون؟ سنشتري وفق السعر المرتفع الذي يكون قد تخطّى ما اشترينا وفقه، بما يزيد عن 2000 أو ربما 5000 ليرة، فندفع ثمنًا مرتفعًا ونسجّل على الزبون ثمنًا اضافيًا. لذلك قررنا إقفال المحال بانتظار الحل المناسب”. والحل برأي الباعة هو اعتماد الدولار.
اعتماد الدولار يُبعِد القلق عن الباعة، ويزيده عند الزبائن وقد يؤدي لارتفاع الدولار بشكل مستمر ومتقلّب. فأسعار المواد الغذائية بالليرة، تتناسب مع ارتفاع أسعار الدولار، وإن كانت بمعدّل أعلى. ومع بعض الهدوء الذي يشهده السوق في أغلب الأحيان وفق سعر ما، تهدأ أسعار السلع وتنخفض بعضها، حسب معادلة العرض والطلب لكل سلعة. أما باعتماد الدولار كمعيار للسعر فسترتفع الأسعار بمعدّلات كبيرة ومتقلّبة. ناهيك بالفوارق التي يخلقها الهامش المعتمد من قِبَل كل تاجر. فأسعار الدولار تتغيّر بين منطقة وأخرى وبحجم المبلغ المراد بيعه أو شراؤه، ما يسمح بتحرك الأسعار بالدولار بين منطقة وأخرى.
أيضًا، سيزيد التسعير بالدولار الطلب على العملة الخضراء، وإن استوفى الباعة ثمن السلع بالليرة. فتغطية الأسعار المرتفعة بالليرة يقابلها تأمين الدولار، ما يعني زيادة الطلب مقابل العرض في السوق. وتاليًا ارتفاع أسعار الدولار، أي ارتفاع أسعار السلع مجددًا.
من جهة أخرى، لم تنتظر بعض المحال أي قرار رسمي، ولم تقفل أبوابها، بل لجأت مباشرةً لتحديد الأسعار بالدولار، تاركة للمواطنين خيار الشراء أو عدمه، فيما لا خيار لوزارة الاقتصاد أو أي جهاز رقابي في الدولة، سوى المشاهدة، لأن الأمور خرجت عن السيطرة.