في وقت غابت الحركة السياسية الداخلية واقتصرت المواقف على التحركات المُطالِبة برفع الحصانات النيابية والأمنية من هنا، وبعض الإحتجاجات المعيشية من هناك، اشتعلت البيانات النارية بين التيارين “البرتقالي” و”الأزرق”، والتي باتت “موضة دارجة هالأيام”، مدخلةً مصطلحات “اللحّامين” من مذابح ومسالخ، بعد دموع التماسيح.
وسط كل ذلك، برز الإهتمام الدولي المركّزعلى كيفية مساعدة الشعب اللبناني، حيث تُصنّف في هذه الخانة، وفقاً للمعلن، زيارة السفيرتين الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو الى المملكة العربية، إذ “لم تكذّبا خبراً” ، فركبتا الطائرة “وبوجهم” الى السعودية، عملاً بنصيحة الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله، تاركتين خلفهما “ماكينة لتّ وعجن” وسط وجهات النظر المختلفة بين واشنطن والرياض حول نوع المساعدات وآلياتها، والجهات التي يجب أن تستفيد منها، وربط كل ذلك بالوضع السياسي.
بالتأكيد، ليست المسألة مجرد رحلة طلب “كرتونة مساعدات أو شوالات حبوب وطحين للمؤسّسات العسكرية والأمنية”، فاكتشاف أهداف الرحلة إلى المملكة لم يطل وقتها كثيراً،
إذ يكفي تشريحها وجدول أعمالها ومراجعة ردود الفعل عليها، إضافة إلى مجموعة الأحداث التي تزامنت معها، لمعرفة المستور منها، وأبرز هذه الأمور:
ـ حملة التصويب التي تولّتها أبواق “المقاومة” والممانعة، والتي رأت فيها مشروع انتداب جديد وتدخّل فاضح في الشؤون الداخلية اللبنانية، وانصياعاً للرغبات الإسرائيلية، متناسين أن سبب “حشر العالم يده”، يعود إلى سياسة الأمر الواقع التي فرضها محورهم بالقوة على اللبنانيين، وأدّت إلى ما أدّت اليه، وما نموذج اجتماع السراي الأخير الذي دعت إليه “حكومة حزب الله” سوى خير دليل .
ـ مجموعة العبارات والنصوص الموحّدة التي اعتُمدت في سلسلة البيانات الصادرة، بدايةً عن الخارجية السعودية، مروراً بذلك المشترك للسفيرتين، فالناطق بإسم الخارجية الأميركية، وصولاً إلى البنتاغون..
ـ إطلالة الناطق الرسمي بإسم البنتاغون، وضعت النقاط على الحروف في إطار أشمل، عندما تحدث في ملخص حديثه اليومي عن الوضع الحرج في لبنان، والرهان على الجيش اللبناني من أجل ضمان الإستقرار، وربطه بالسياسة الخارجية الأميركية تجاه أذرع إيران في المنطقة، مضيئاً على مسؤولية طهران عما يجري في المناطق المشتعلة من عمق الشرق الأوسط الى طرفي الخليج العربي.
ـ ترجمة الإدارة الأميركية لوعدها المقطوع لبابا روما بتفعيل الإهتمام بلبنان، فكان اللقاء الوزاري الثلاثي الذي انعقد في إيطاليا، وترجمة مقرّراته من خلال تلك الزيارة إلى الرياض، التي وجهت رسالةً واضحة في الشكل، من خلال هوية مسؤوليها الذين شاركوا في اللقاءات.
ـ الزيارة اللافتة شكلاً ومضموناً لنائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، الشقيق الأصغر لولي العهد، إلى واشنطن ولقاءاته الرفيعة المستوى، وأهمها مع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، والتي حملت الكثير من الدلالات، في إشارة واضحة إلى الشراكة الإقليمية المتجدّدة بين الرياض وواشنطن، حيث بيروت أبرز ساحاتها، في الوقت الذي تتحدث فيه أوساط الإدارة الأميركية عن فرملة الأخيرة لمسار الإنفتاح تجاه طهران. وهنا، يبدو جلياً أن التوجّه الأميركي إلى إعادة خلق توازن جديد في لبنان في مواجهة “حزب الله” وطهران، حيث الحاجة إلى الحليف التقليدي العربي.
ـ “التوصيات اللبنانية” التي أصدرتها لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية الفرنسية، خلال تقييمها لدور القوات المسلحة الفرنسية في الشرق الأوسط، عشية توقيع وزيرة الجيوش لإتفاق تعاون أمني “أوسع” مع الأميركيين في مواجهة الإرهاب، في أي بقعة من العالم. وسيكون لنا عودة لاحقاً إلى هذا الملف بالتفصيل.
ـ زيارة وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري لساعات إلى بيروت، وتواصله فور عودته بنظيره الأميركي ناقلاً إليه الأجواء السلبية التي سمعها من المسؤولين اللبنانيين رداً على الرسائل التي حملها.
ـ الهجوم الذي تعرّضت له السفيرة الفرنسية عقب موقفها في لقاء السراي.على هذا الصعيد، تؤكد مصادر ديبلوماسية غربية، أن الإدارتين في باريس وواشنطن أرادتا إيصال رسالة واضحة إلى المسؤولين اللبنانيين، بأن السفيرتين المفوّضتين، هما ركيزتان أساسيتان في سياسة بلديهما في لبنان، في ردّ واضح على الحملات التي تتعرّض لها السفيرتان والحملات التي تُشن خارجاً لاستبدالهما.
ـ إحتفال بكركي برمزيّته، خصوصاً أنه جاء عقب لقاء الفاتيكان وما أمّنه من دفع معنوي لمواقف البطريرك بشارة الراعي، بعد مواقف المونسنيور كميل مبارك النارية.
في الشكل الظاهر إذاً، الزيارة طابعها إنساني ـ إغاثي، لاستكمال الخطوات التنفيذية للخطة الإقتصادية ـ الميدانية، مع غياب تام لبحث المسألة الحكومية، وهو ما تبيّنه صور اللقاءات التي عُقدت، وما ذكر الموضوع الحكومي في البيان الرسمي الصادر إلاّ من باب الأدبيات الديبلوماسية الذي بات مرافقاً لصدور أي موقف حول لبنان، أمّا باطنها ففي علم التقارير الديبلوماسية التي رُفعت إلى العواصم المعنية.
هي خطوة جديدة على طريق التدويل، الذي استجلبه المحور ذاته مع خياره بالذهاب بحكومة اللون الواحد التي أمر بها السيد….. فمن حزن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، وأسفه الصادقين على قرار رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، بالإعتذار مع وقف التنفيذ، إلى اللعب على حبال الحصانات والملاحقات، تقترب البلاد أكثر فأكثر من مرحلة اللاعودة، على قاعدة “ومن الحُب ما قتل”، في ظل معادلة “إمّا التنين جوا أو التنين برّا”، بكل مندرجاتها…. على ما يقول الشاطر حسن، “فالكأس يلّلي بتشرب منه رح تشرب منه”….
المصدر : ليبانون ديبايت – ميشال نصر