ليست الأزمة الحادة التي يمر بها لبنان راهناً الأولى من نوعها، وإذا كُتب له الخروج منها سالماً، فمن المرجح ألا تكون الأخيرة. فهذا الوطن الصغير كان دائماً محط الأنظار إما سلباً أو إيجاباً. يسحر أبناؤه العالم أحياناً بنجاحاتهم الفردية الباهرة التي غالباً ما يحققونها خارج أراضيه، كما يُدهش بعض مسؤوليه العالم أيضاً بلا مبالاتهم وقلة اكتراثهم إلا لمصالحهم الخاصة، حتى لو اهتز الهيكل وسقط على رؤوس الجميع، بما فيه رؤوسهم.
إنه بلد الظواهر المتناقضة إلى حد التشرذم السياسي والمجتمعي. فيه من كل الألوان السياسية:
المحترفون الذين يجيدون الرقص على حافة الهاوية ولكن يدركون في الوقت ذاته متى ينسحبون من السباق الدامي وكيف يحصون خسائرهم وأرباحهم، وفيه أيضاً الهواة الذين يعتبرون أن التاريخ الحافل الذي شهدته البلاد لم يبدأ إلا معهم وأن الآخرين ليسوا سوى متطفلين على الحياة السياسية تورمت أحجامهم وانتفخت بفعل عوامل محلية وإقليمية في لحظات معينة وآن الأوان لإعادتهم إلى أحجامهم «الطبيعية»، وهو ما يعكس فهماً سطحياً لحقيقة البلاد القائمة على توازنات عميقة وحساسة، لا تحتمل الاهتزاز، لأن في اهتزازها ما يسقط الاستقرار الهش ويفتح الباب أمام شياطين الانقسامات الطائفية والمذهبية لتغذي الأحقاد وتنصب الجدران وتحمّي فوهات البنادق.
إنه بلد المفارقات العجيبة إلى حد الاستغراب. فمرويات المزايا المناخية التفاضلية والفصول الأربعة وملحمة السباحة والتزلج في آن عكست في حقبات معينة «عظمة» لبنانية مصطنعة أخفت في طياتها أمراضاً خبيثة كتلك الأمراض التي لم يكن أحد يريد أن يعترف بوجودها خوفاً من تفشيها، وكأن إدارة الظهر لها توقف سريانها السريع في كل مفاصل المجتمع، فعندما يصبح المرض ظاهراً إلى درجة يصبح غض النظر عنه غير متاح؛ يكون قطار العلاج قد تجاوز المحطات المطلوبة وأصبح الخروج من المأزق إما يتم من خلال اجتراح معجزات غائبة وإما اشتعال الصراع وصولاً إلى حدوده القصوى بما يتيح ولادة قيصرية جديدة.
إنه بلد الاحتكارات والسمسرات والوكالات الحصرية في التجارة غير الحرة. إنها نيو – ليبرالية لبنانية من نوع خاص. تستطيع حفنة صغيرة من الشركات والتجار، بكثير من الجشع، أن توقف توزيع الأدوية على الصيدليات وهي مكدسة في المستودعات، وأن توزع المحروقات بكميات لا تروي ظمأ السوق، فتدفع المواطنين للانتظار ساعات أمام المحطات بهدف الحصول على عدد قليل من اللترات للوصول إلى أعمالهم التي أصبحت مداخيلها لا تكفي القوت اليومي بعد التدهور المريع للعملة الوطنية الذي لا يبدو أن ثمة سقوفًا له حتى الآن.
إنه بلد السياحة والاصطياف الذي إن لم يستقطب زواراً من الخارج، ينعش أهله سياحتهم الداخلية وكأن لا هموم في البلد أو مشاكل حياتية ومعيشية؛ وفي الوقت ذاته، يرتاد اللبنانيون المطاعم فيسددون فاتورة وجبة عشاء التهموه في أقل من ساعتين تفوق بمجموعها الراتب الشهري للساقي الذي لا تغادر وجهه الابتسامة محافظاً على السمعة اللبنانية القديمة في حسن الضيافة والاستقبال، حتى لو كانت تخفي بين ثناياها ألماً وحسرة وقنوطاً وخيبة أمل من وطن لا بديل له عنه، مهما جار عليه الزمن.
إنه البلد الذي سقطت طبقته الوسطى بالضربة القاضية، وسقط معها صمام الأمان الاجتماعي الذي تشكله من حيث استيعابها لعشرات الآلاف من الشبان والشابات الذين يتمتعون بكفاءات علمية متقدمة أو مهارات مهنية متميزة، فإذا بها تُسحق في فيضانات الفوضى والتقهقر والتراجع والانكسار الذي يكتب كل يوم فصلاً جديداً من فصوله القاسية في الساحات والشوارع والطرقات فتلتقطه الهواتف الذكية وتنقله في لحظته إلى باقي مكونات المجتمع التي تتفرج متحسرة وتتناقله دون أن تتحرك لتغير الواقع القائم بعد أن تجاوزت مرحلة الغضب ودخلت مرحلة الذهول وشبه الاستسلام.
إنه البلد الذي تتلاشى دولته وقد أصبحت الطرف الأضعف بين الأطراف الأقوياء، يستدعونها حينما يريدون وحيثما يريدون، ويتغاضون عن وجودها أيضاً حينما يريدون وحيثما يريدون. دولة غب الطلب. دولة حاضرة في مكان وغائبة في أماكن. هنا محضر ضبط لمخالفة سير، وهناك تهريب في وضح النهار على الحدود اللبنانية – السورية بما استنزف الاقتصاد اللبناني الذي لا يمكنه تمويل اقتصادين ومجتمعين ودولتين. هذا يفوق قدرة لبنان. هذا يفوق قدرة أي دولة في العالم.
إنه بلد الأحلام المتكسرة، والأمهات المتحسرة، والحلول المتعسرة. بلد النكايات والتجاذبات والانهيارات. بلد الطموحات المهزومة، والكرامات المهدورة، والحقوق المهضومة. بلد اللاعدالة واللامساواة واللامبالاة. بلد لا محاسبة فيه ولا مساءلة، لا شفافية ولا مسؤولية. بلد تُصدر سلطته التشريعية قوانين لا تُنفّذ، وتتخذ حكوماته قرارات لا تُطبق. بلد المعايير المزدوجة والحسابات الملتوية والسلوكيات السياسية المنحرفة.
ولكنه، مع كل ذلك، بلد الحريات والثقافة، التعددية والتنوع، بلد المهرجانات والفنون. بلدٌ يولد من الطاقات البشرية ما لا يُضاهى قياساً إلى إمكاناته وقدراته. بلدٌ تمسّك بعروبته ولو جارت عليه، ودفع أثماناً باهظة للحفاظ عليها عندما واجه الاحتلال الإسرائيلي الذي أراد طمس هويته والوصاية السورية التي أرادت مصادرة قراره. من دون تذمّر أو تأفف، يواصل المواطن اللبناني كفاحه اليومي في الحياة بعد أن أصبح متروكاً إلى قدره، يلهث خلف قوته، ويحوّل نكباته المتتالية إلى فكاهة يتناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي.
هل يجوز فعلاً أن ينتهي لبنان؟
المصدر : رامي الريس في الشرق الأوسط