منذ أشهر بدأ الحديث في لبنان على ماذا يمكن الرهان: فصل الصيف ودولارات المغتربين، والسيّاح القادمون إلى بيروت، والأثر الإيجابي المتوقّع لهذه الدولارات على مستوى سعر صرف الليرة وتوفّر العملة الصعبة في الأسواق. وعلى رغم تضاؤل أعداد السيّاح الأجانب الوافدين نتيجة الظروف الأمنيّة والماليّة، ظل لبنان يستفيد من الحركة السياحيّة التي تعتمد على زيارة المغتربين لذويهم في البلاد، لكن علامات استفهام تدور حول حجم هذه الحركة المتوقعة مقارنة بالسنوات السابقة.
بعد مرور حزيران، ومضي الأسبوع الأوّل من شهر تمّوز، لم يبصر اللبنانيون أثراً إيجابياً على المستوى النقدي والمالي. لا بل استمرّت الليرة اللبنانيّة بتسجيل معدلات انخفاض سريعة وقياسيّة، وصولاً إلى مستويات تجاوزت 19,500 ألف ليرة مقابل الدولار منتصف يوم الجمعة 9 تموز الجاري، وكأن دولارات المغتربين لم تكن، فما الذي جرى؟
يشير المتابعون لأحوال سوق القطع إلى أن مجموعة من الأسباب المرتبطة بالانهيار، تحول دون أن تلعب أموال المغتربين والسياح أي دور إيجابي في ما يخص سعر الصرف، ويمكن تلخيص هذه العوامل على الشكل التالي:
موازين العرض والطلب
الدولارات التي يضخها المغتربون في لبنان يبيعونها في السوق السوداء عند قدومهم، وغالباً ما توازي قيمة انفاقهم خلال فترة وجودهم في البلاد. فلا سبب لاحتفاظ المغترب بالعملة المحليّة لوقت يتعدّى وجوده في لبنان. وبعد انفاقه هذه الليرات في الأنشطة الاقتصاديّة السياحيّة، يتحوّل معظمها إلى طلب متجدد على الدولار الأميركي. فالغالبيّة الساحقة من أنشطة الاستهلاك المحلي مرتبطة بسلع مستوردة من الخارج. والمؤسسات والتجار يرفضون الاحتفاظ بمبالغ كبيرة من العملة المحليّة على المدى الطويل في ظل انهيار سعر صرف الليرة. أما إذا انفق المغترب دولاراته النقديّة مباشرة في الأنشطة الاستهلاكيّة، فيخرج جزء كبير منها لتغطية كلفة الاستيراد.
المعادلة بسيطة: ما يأتي به المغترب من دولارات ليبيعه عند قدومه، يقابله طلب على الدولار من التجار لتغطية انفاقه بالليرة. وما يدخل السوق من دولارات المغتربين، يخرج مقابله قدر من الدولارات لاستيراد ما يستهلكونه خلال وجودهم في لبنان، ولو بقيمة أقل من الدولارات التي دخلت البلاد.
وأشار الاستشاري المالي مايك عازار في مجموعة من تغريداته على تويتر إلى هذه المعادلة، وذكر حقيقة أخرى بالغة الأهميّة: إنفاق السياح والمغتربون على السلع المدعومة من مصرف لبنان مباشرة، كالمحروقات والخبز، أو سلع أخرى تدخل كلفة المحروقات في تسعيرتها، تمثّل عملياً استنزافاً لما تبقى من دولارات لدى المصرف المركزي، بدل أن تكون عاملاً إيجابياً على النظام المالي اللبناني.
دولارات البيوت
وثمّة نسبة من دولارات المغتربين لا يستعملها التجار بالضرورة لتغطية حاجة الاستيراد: إيجارات الشقق والخدمات المحليّة ورواتب موظفي المؤسسات وأرباحها. لكنّ المشكلة هنا تكمن في الركود الاقتصادي وجمود الأسواق، وعدم احتفاظ اللبنانيين بأي مبالغ في المصارف أو بالليرة اللبنانيّة. وهذا ما يجعل هذه النسبة من الدولارات تذهب للادخار في ما بات يُعرف بـ”دولارات البيوت”. أي الدولارات الورقيّة التي يحتفظ بها اللبنانيون في منازلهم للحفاظ على قيمتها. وهكذا تختفي هذه الدولارات ولا تُضخ في النظام المالي أو الدورة الاقتصاديّ، فتظل عديمة التأثير على المستوى المالي أو النقدي.
ولا تنفي هذه العوامل أهميّة السياحة كعنصر من عناصر رفد أي سوق بالعملات الصعبة. لكن هذه القاعدة التي لا يمكن تجاوزها في الظروف الاقتصاديّة الطبيعيّة، تتهاوى في حال الانهيار. فالأنشطة الاقتصاديّة في هذه الحال تقتصر على الانفاق والاستيراد في غياب أي دورة اقتصادية طبيعيّة، عندما يحرص الجميع على تفادي أي عملية في النظام المالي المفلس، وتحصر المؤسسات التجاريّة والسياحيّة عملها بما هو مطلوب للاستمرار، من دون ضخ أي أموال في استثمارات ومشاريع جديدة. وفي الوقت عينه تتحوّل أي عملية بالعملة المحليّة إلى طلب موازٍ على الدولار، لعدم رغبة أي تاجر أو مؤسسة بالاحتفاظ بالليرة على المدى الطويل. لذا لا يمكن توقّع الكثير من دولارات المغتربين.
أموال المصارف العالقة
ثمّة سبب آخر لعدم التفاؤل كثيراً بأعداد المغتربين الوافدين. فالنسبة الأكبر من هؤلاء هم من أصحاب ودائع عالقة في النظام المصرفي. وهم يحاولون خلال وجودهم في لبنان الاستفادة من تلك الأموال العالقة عبر سحبها، ولو بالليرة اللبنانيّة وفقاً لمندرجات التعميم 151، لإنفاقها خلال فترة إقامتهم في البلاد.
وبذلك تكون هذه الفئة من المغتربين مصدر ضغط إضافي على سعر الصرف، ومصدراً للطلب على الدولار، بدل أن تكون مصدر عرضه، على خلاف توقعات المتفائلين بقدومهم، خصوصاً أن كل ما يخرج إلى السوق اليوم من سيولة بالليرة اللبنانيّة، يتحوّل حكماً إلى طلب على الدولار، إما للاستيراد في حال إنفاق السيولة للإستهلاك، وإما للادخار.
عوامل أخرى
بمعزل عما سبق، ثمّة عوامل أخرى تدخل على خط موازين العرض والطلب خلال موسم الصيف. فرفع الدعم الذي يجري اليوم عن المواد الغذائيّة ومعظم أصناف الدواء والمستلزمات الطبيّة، بات يحيل كميات ضخمة من الطلب على الدولار إلى السوق السوداء، بعدما كان مصرف لبنان يؤمن هذه الدولارات من احتياطاته. وهذا الانقلاب الكبير في موازين العرض والطلب في السوق السوادء، كاف لإبطال تأثير الدولارات الواردة من النشاط السياحي خلال فصل الصيف الأقل حجماً. لا بل كاف لإحداث تدهور سريع في سعر الصرف، على خلاف التوقعات المتفائلة.
ثم إن فشل منصّة مصرف لبنان، وعدم تمكّنه من السيطرة على السوق الموازية عبر هذه المنصّة، فاقما من سوداويّة هذا المشهد.
المخاوف الأمنيّة
وهناك مشكلة أخيرة تتعلق بالتفاؤل المفرط في حجم الأموال الواردة، وحجم الحركة السياحيّة المتوقعة، مقارنة بالسنوات السابقة. فمشاهد الطوابير أمام محطات الوقود وما يرافقها من إشكالات، وعدم توفّر نظام استشفائي فعّال في ظل نقص المستلزمات الطبيّة، وشح الأدوية… هذه كلها إشارات لا تشجّع أي مغترب على تمضية عطلته الصيفيّة في البلاد. أما التوترات الأمنيّة المتفرّقة الناجمة عن الضغوط القاسية على المستوى الاجتماعي، وما يُحكى عن انفجار شامل نتيجة هذه الضغوط، فتزيد من نفور أي مقيم في الخارج من القدوم إلى لبنان.
وفي الخلاصة، المؤكد أن السياحة مثل القطاعين الصناعي والزراعي، يمكن أن تمثّل دعامة أساسيّة في أي اقتصاد يستهدف تأمين التدفقات الماليّة من الخارج بشكل مستدام. لكنّ هذا الطموح لا يتسم حكماً بالواقعيّة. وذلك لأن الرهان على هذه التدفقات لا يندرج ضمن رهان على استعادة انتظام الدورة الاقتصادية الشاملة، في إطار خطة واقعيّة قادرة على التعامل مع أوجه الانهيار الحاصل.
ومن غير الواقعي أيضاً أن يبني بعض السياسيين خطاباتهم الشعبوبيّة على هذا التفاؤل غير المدروس، في محاولة لاستيعاب النقمة الشعبيّة والإيحاء بأن هناك ما يمكن أن يعوّض خلال الأشهر المقبلة غياب الدولة عن المشهد المالي وعدم قيامها بأي مبادرات أو معالجات.