استنفرت الدوائر القانونية في المصارف، منذ بداية هذا الأسبوع، لتنظيم العقود بينها وبين المودعين من أجل بدء دفع مبلغ الـ50 ألف دولار على 5 سنوات من الودائع بالدولار، بموجب التعميم 158. كان يُفترض أن يبدأ الدفع مطلع هذا الشهر، إلاّ أنّ المصارف كلّها امتنعت عن ذلك بحجّة التجهيزات اللوجستية وإبلاغ العملاء، فتأخّر الدفع، ويبدو أنّه لن يبدأ قبل بداية الشهر المقبل. فتكون المصارف قد ابتلعت شهراً كاملاً “بين المزح والجدّ”.
كان “أساس” السبّاق في الكشف عن هذا التأخير قبل أسابيع.
لكن لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل وصل الأمر بالمصارف أن أوقفت العمل بمضمون التعميم 151، خلال هذا الشهر، على الرغم من أنّها هي مَن يتحمّل مسؤولية التأخير. ونتيجة ذلك أنّ الكثير من المودعين سيكونون عاجزين عن سحب أموالهم على تسعيرة 3900 ليرة إلى حين استحقاق الدفعة الأولى على سعر الـ12000، الذي حدّدته منصّة مصرف لبنان، فيحلّ الضيق بالكثير من الناس ممّن يعتمدون على ودائعهم من أجل العيش.
تُضاف إلى هذا أزمة جديدة ستكون بانتظار المودعين المستفيدين من مضمون التعميم 158، وتتعلّق بالـ200 دولار التي سيقبضها هؤلاء بالليرة اللبنانية غير النقدية (2.4 مليون ليرة). سيبقى هذا المبلغ في المصرف “غبّ الطلب” لاستخدامه بواسطة البطاقات البلاستيكية، ولن تُتاح الفرصة أمام المودع للحصول عليه “كاش” إطلاقاً.
هذا الواقع سيفرض على الناس البحث عن المحلّات والمتاجر التي تقبل البيع بواسطة البطاقات، حرصاً على عدم ترك هذه الأموال في الحسابات للمصارف، والتخلّص منها قبل أن تفقد المزيد من قيمتها. فالدكاكين في الأحياء لا تقبَل الدفع بواسطة البطاقات، ولا محطات الوقود، ولا الأفران، ولا محلّات البقالة ولا الملاحم… إنّما يقتصر الأمر على بعض المحلات التجارية الكبيرة و”المولات” وقلّة من المطاعم والمقاهي والمنتجعات السياحية.
نتيجة لذلك، قد نشهد المزيد من مظاهر صرف الأموال على الترفيه والكماليّات، وستتعمّق حال التناقض التي نراها كل يوم، والتي تُختصر بمشهدية الزحمة الخانقة في المطاعم والمقاهي والفنادق، التي تقابلها طوابير على محطات الوقود، واقتتال على “غالونات البنزين”.
كان هدف مصرف لبنان من التعميم 158 إلزام المصارف بدفع 800 دولار شهرياً لكل مودع، مقسّمة بالتساوي بين الدولار الكاش وبين الليرة اللبنانية (400$ كاش و400$ بالليرة)، لكنّ هذا الأمر بقي ظاهرياً، فيما الواقع أصبح خلاف ذلك، خصوصاً مع الارتفاع المتواصل الذي يُسجّله سعر صرف الدولار، الذي بات يتأرجح يوميّاً في “السوق الموازي”، مثل الـyoyo، ضمن هامش 17500 ليرة لبنانية، بشكل غير مفهوم وغير منطقي، ولا يتماهى مع لعبة “العرض والطلب”.
أضف إلى هذا كلّه أنّ الترجيحات تشير إلى أنّ رقم الـ17500 ليرة مرشّح لمزيد من الارتفاع بعد انتهاء فصل الصيف، خصوصاً إذا ما قارنّا هذه المدّة الزمنية مع نظيرتها من العام الفائت. فخلال أيار 2020 كان سعر صرف الدولار نحو 4500 ليرة، ثمّ واصل ارتفاعه حتى سجّل 7500 ليرة مع بداية شهر تشرين الأول، وكان قد بلغ ذروته في مثل هذا اليوم من تموز، مسجّلاً 9000 ليرة، ثمّ تراجع بعد انفجار المرفأ وتدفُّق المساعدات الخارجية إلى ما بين 7 و8 آلاف ليرة طوال أشهر.
فإذا عطفنا هذه الأرقام والوقائع على التعثّر الحكومي والأفق المالي والنقدي المسدود، الذي ينتظر صرف آخر دولار من دولارات التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان، نكون حتماً إزاء واقع أكثر سوداويّة.
وعليه، فإنّ الدولارات الـ400 الكاش، سيقابلها 200$ بالليرة اللبنانية غير قابلة للصرف و200$ أخرى بالليرة “كاش”، لكنّها لا تساوي قيمتها الدفترية (200$) أبداً ما دام سعر المنصّة هو 12000 ليرة. أي أنّ الـ 200 $ ستساوي 135$ فقط على سعر صرف اليوم، وربّما في الأيام المقبلة أقلّ من ذلك.
يراهن مصرف لبنان على هذه الحسبة لإعادة سحب جزء من السيولة من السوق، وذلك من خلال دفع المودعين إلى صرف جزء من الـ400$ أو ربّما كلها إذا استمرّ سعر الصرف بالتحليق. خصوصاً أنّ الرقم المدفوع بالليرة اللبنانية لن يكون كافياً لسدّ حاجات الناس اليومية، وأنّ الرقم المماثل في البطاقات البلاستيكية لن يكون قابلاً للصرف إلاّ في أماكن محدّدة وعلى سلع محدّدة مثلما أسلفنا الذكر… وهذا ما يبرّر ربط الاستفادة من مضمون التعميم 158 بوقف الاستفادة من مضمون التعميم 151، الخاص بتسعيرة 3900 ليرة.
يبدو أنّ مصرف لبنان والمصارف ما عادت مهتمّة، كما في السابق، بشطب الودائع، وإنّما باتت تتطلّع إلى سحب الدولارات وخفض حجم السيولة… فيما نحن فئران تجارب.
المصدر : أساس ميديا – عماد الشدياق