كتبت جودي الأسمر في “النهار”:
عند اندلاع ثورة تشرين، لم يكن قد مضى على زواج الشابة المهندسة هند عرداتي (28 سنة) شهراً، فأصرّت على العودة من جدّة لتشارك في تظاهرات مدينتها طرابلس، التي لقّبت بـ”عروس الثورة”، وكان الظنّ “أنّ معجزات ستتحقّق”، قبل أن تجبرها ظروف العمل والزواج على العودة إلى السعودية؛ ومنذ ذلك الوقت لم تَزُر لبنان مجدّداً؛ “لقد نجونا” تقول.
وتؤكّد الشابة المغتربة أنّ المال ليس حافزها الأهمّ إنّما “نظام المعيشة، وحقوق الإنسان الّتي انقرضت تقريباّ في لبنان. يظنّ كثيرون أنّ مغتربي الخليج يتنعّمون بمال وافر، وهذا تفكير خطأ؛ فالمعاشات تراجعت، لكن أسلوب الحياة هو ما يصنع الفارق”.
وتقول عرداتي إنّها باتت لا تفكر في انقطاع الكهرباء، والمياه، والإنترنت، وفوضى السّير، والوضع الأمني، وكلّ التفاصيل التي “حرم منها المواطن اللبنانيّ فصارت حياته جحيماً”، مستغربة أن تحبّ المعيشة في السعوديّة إلى هذا الحدّ، فيما كانت تعيش بأسلوب حياة ليبرالي في وطنها الأم.
وهنا تستدرك “استغربت أنّ المعاكسات في الشّارع يجرّم عليها القانون في السعودية، وهي شكل من أشكال التحرش بالنساء. أستبعد أن يصبح للقانون في لبنان هيبة يوماً ما”.
يوافقها عنصر في قوى الأمن الداخلي، يمتلك أحد المقاهي الفنية عند مدخل طرابلس الجنوبي، حيث يتردّد شبابٌ من محبّي القهوة والطرب وعزف العود و”الثورة”. ففي بداية هذا الشهر، عرض الشاب المقهى للبيع على صفحته في “فايسبوك”، والسبب هو السفر.
وعند سؤاله عن وجهته، يُجيب: “معاشي لا يساوي قروشاً، وكثيرون من زملائي فرّوا من الخدمة، لأنّ التسريح ممنوع. أحاول أن أهاجر إلى كندا، ولكن حظوظي ما تزال ضئيلة على خلفيّة عملي. أعلنت أنني مسافر لأنني استسلمت وقرفت. حتّى المقهى لا أقصده إلا نادراً”.
بالأرقام: هجرة متنامية
ليس من الصعوبة ملاحظة تسارع هجرة الشباب اللبنانيّ منذ بدء العد العكسيّ للأزمة في أواخر العام 2019، ولو لم يكشف عن أرقام تبرز مؤشّرات كميّة؛ فالهجرة تشكّل حلماً للّبنانيين.
وتشير أرقام “الدولية للمعلومات”إلى أنّه عند فتح مطار بيروت في تموز 2020، كان متوسّط عدد المسافرين 3100. أمّا بعد وقوع انفجار 4 آب، فارتفع معدّل المسافرين إلى 4100 مسافر في الشهر نفسه.
ويقول المصدر أنّه في العام 2018 بلغ عدد المهاجرين 33 ألفاً، ليتضاعف إلى 66 ألفاً في العام 2019، في حين يصعب التأكد من الرّقم في العام 2020، بالرّغم من أنّه يقرب من الـ25 ألف مهاجر، على خلفيّة إغلاق مطارات العالم والأزمة الصحيّة العالمية وتقلّص فرص العمل دوليّاً.
ويتوقع مراقبون أن تكلّل سنة 2021 بأرقام غير مسبوقة من المهاجرين، بعد أن غدت الهجرة المنفذ الوحيد في تصوّرات الشباب اللبناني “لمن استطاع إليها سبيلاً” على خلفية أزمة الدولار واحتجاز أموال المودعين.
في ضوء ما يحدث، هل سيغدو لبنان بلداً محروماً من نُخبه؟ وما انعكاس هجرة الشباب على فرص التغيير في بلد تطبق عليه الانهيارات من كلّ جانب؟
كندا والاتجار بالأحلام
يتلقّى مستشار شؤون الهجرة إلى كندا، ربيع حمّود، يومياً عبر الواتساب ما يعادل 40 رسالة من أرقام جديدة، يصفها بـ”استغاثات” للهجرة إلى كندا.
وحين تتخطّى الرسائل معدّلها، يعرف ربيع أنّ كارثة ما حلّت بلبنان، “حينها أتوقّع أن أفتح التلفاز على حادث أمني، وهذا ما عشته حقاً عند انفجار 4 آب. جهازي الخلويّ كاد ينفجر من رسائل طالبي الهجرة خلال الـ48 ساعة التي تلت المأساة”.
وحول الشرائح الأكثر طلباً للهجرة، يقول: “هناك ثلاث فئات أساسيّة؛ شباب في مقتبل العمر مع خبرة مبتدئة، يعرفون أنّهم غير قادرين على تأسيس عائلة بمعاش شهريّ لا يتخطّى 120 دولاراً، ومتزوّجون في الثلاثينيّات عاشوا زلازل ما بعد ثورة تشرين وانفجار آب ويشعرون بأنّ الوطن هو حيث الأمن والخبز، وفئة واسعة من متعلّمين لم يستطيعوا التأقلم مع نظام الفوضى والخوّات وعصابات تأمين البنزين والدواء. ما يجمع هؤلاء هو معاناتهم من غياب دولة المؤسّسات”.
ويضيف “تأكّد لي أنّ غياب الدولة والأمن هو الدافع الأهمّ للهجرة، وقد يتقدم على العامل المادي؛ من خلال تعاملي مع شرائح ميسورة صفّت أعمالها في لبنان، وتحضّر للهجرة إلى كندا، بالإضافة إلى اللبنانيين المغتربين في الخليج الذين حصدوا خبرة متقدّمة وبعض المدخّرات، لكنّهم قرّروا أن يمضوا تقاعدهم في كندا لا في لبنان”.
ويأسف حمّود لأنّ طموح الهجرة لا يتوافق مع متطلّباتها، وهي صارمة، وأهمّها: مستوى علميّ، على الأقلّ لغة واحدة أجنبية إنكليزي أو فرنسيّ متقنة، العمر، الوضع الاجتماعي، المهنة وسنوات الخبرة. لذلك فإنّ “زبدة النخبة اللبنانية تستطيع الهجرة إلى كندا”.
ويعتبر أنّ “شرط المدّخرات بالدولار يشكّل أكبر العوائق التي تحول دون التأهّل للهجرة. هذه المدّخرات المسمّاة بـ Express Entry Settlment Funds، تبدأ بنحو عشرة آلاف دولار أميركيّ، وفق قاعدة تصاعديّة بحسب أعداد أفراد الأسرة”.
ويحاول لبنانيون “إمّا فتح حسابات في تركيا ودبي، أو تلقّي حوالة من الودائع الماليّة المجمّدة من أحد المقرّبين”. ويشير إلى تهديد بإمكانية عدم اعتراف دائرة الهجرة الكندية بمدّخرات البنوك اللبنانية، إلا أنّ لا قرار صدر عنها حتى اللحظة.
وأمام الآمال الكبيرة والشروط الأكبر، يقع مواطنون لبنانيون “فريسة دسمة لأوهام ينسجها مكاتب وخبراء هجرة غير نزهاء لقاء مبالغ طائلة. قصص تدمي القلوب حول “التنصيب” وجنى الأعمار التي تضيع في سبيل هجرة موهومة”.
ويختم حمّود: “أكثر ما يحزنني أنّني أشاهد كيف يتحوّل لبنان إلى بلد مهجور من نخبه. امتيازات أنّ اللبنانيّ يتقن اللغات ومثقّف ومنفتح ومرحّب به في كلّ البلدان سنفقدها بعد جيلين كحدّ أقصى”.
المهاجر وقوة التغيير
يجد الباحث في شؤون الهجرة وهيب معلوف أنّ تغيير الواقع اللبناني ترسمه علاقة عميقة بالدياسبورا الشابة؛ والتاريخ الحديث خير دليل عليها، لا سيّما عقب الحرب الأهلية وحرب الإلغاء، التي شهدت موجتين بارزتين من هجرة هذه النخب، بالأخصّ المسيحية منها، والتي تشكّل الطبقة السياسية الحاكمة حالياً.
ويورد لـ”النهار” مثالاً هجرة كوادر حزبيين مثل النائب سيمون أبي رميا الذي انضمّ لخطّ ميشال عون في منتصف الثمانينيات وهو في باريس، ثمّ تعرّف إلى عون حين نفي الى فرنسا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوزيرالسابق بيار أبي عاصي الذي سافر إلى فرنسا ليُكمل تعليمه، ثمّ حصد موقعاً سياسيّاً بارزاً في “القوات” إبان عودته إلى لبنان.
عيّنات أخرى يقدّمها الباحث في كتابه الصادر حديثاً، بالتعاون مع الدكتور بول طبر، بعنوان “الهجرة وتشكّل النخبة السياسية في لبنان”، وهي إذ تؤكّد على دور مهمّ يلعبه الشباب المهاجر في عملية التغيير، فإنّها لا ترمي لتأييد أو انتقاد الأحزاب التقليديّة.
من جهة أخرى، يسأل المعلوف: “لا شكّ في أنّ الأحزاب التقليديّة تمتّعت منذ ذلك الوقت بهيكليّة وحوكمة متينتين؛ الأمر الذي لا نستطيع مقارنته بالشباب الذين آمنوا بـ17 تشرين ثم اختاروا الهجرة، فيما لم يبلوروا بعد كياناً متجانساً. معلوماتنا تشير إلى جهود تبذلها مجموعات 17 تشرين بهذا الاتجاه، فهل تمتلك الأدوات والموارد الكافية لتفعيل صوتها؟ آخذين بالاعتبار بأنّ الدياسبورا تنتخب 4 نواب في البرلمان، وفروع الأحزاب التقليدية نشطة جداً في الاغتراب، وكذلك مالها الانتخابيّ في لبنان وخارجه”.
ويشكّل مال المغتربين، وفق معلوف، سلاحاً بحدّين في عملية التغيير، وهو أكثر التباساً في لبنان؛ فمن ناحية، تساهم التحويلات في دفع عجلة التنمية المحليّة، وهي حقيقة راسخة في الدول النامية التي تشهد أزمات، كما يساعد مال المغتربين على تحرير شريحة من المواطنين من الزبائنيّة السياسيّة التي تقع في فخّها لتؤمن خبزها اليوميّ من مال الزعيم.
من ناحية أخرى، تساعد هذه الأموال على تكريس الزعامات السياسية القائمة على أساس طائفي، فـ”أغلبيّة الزعماء كوّنوا سلطتهم الأساس من خلال مليارات الخليج وإفريقيا وأميركا، ثمّ عادوا إلى لبنان ليستثمروها في خلق زعاماتهم أو انتزاع صفة سياسيّة في الأحزاب”.
ويرفض الباحث إنكار الفرصة التي يأتي بها الاغتراب لصقل ثقافة المواطن الديموقراطية، ومعها يأتي للتغيير، شارحاً أن “الاغتراب يفتح الباب للتغيير الديموقراطي، لأنّ النخب والمغتربين عموماً سيعيشون تجارب حقيقية في المشاركة السياسية والنظام والمساءلة والمحاسبة، ما يرتقي بخياراتهم السياسية وينقلونه بالفعل عند خوضهم غمار الشأن العام”.
ويختم: “هذه الدينامية تسمّيها الباحثة بيغي ليفيت بـ”التحوّلات الاجتماعية” التي تنسحب إلى تأثيرات ديموقراطية في لبنان، وهذا يدلّنا على واحد من فوائد الهجرة على المدى الطويل”.