كما بدأ الرئيس سعد الحريري رحلة تكليفه بنسختها الجديدة عبر الإعلام يُخطّط لأن ينهيها. رئيس الحكومة المكلّف يعود إلى الشاشة الصغيرة، ملجأه الوحيد، بعدما سُدَّت في وجههِ الأبواب، وبعد 9 أشهر من التكليف، ها هو على قاب قوسين أو أدنى من وضع أوزاره!
عاد الحديث عن اعتذار سعد الحريري عن مهمة التأليف إلى الضوء ولو بصيغة “قد”. تزامن ذلك وارتفاع لغة التصعيد من جانب “التيّار الوطني الحرّ” الذي عاد بدوره ملوّحاً بالإستقالة من مجلس النواب، بعد أسابيع على طيّها نزولاً عند رغبة “حزب الله”. تقريباً، الكلّ سّلم بواقع أن لا قدرة لدى الحريري على التأليف، وقد تعاظمَ ذلك في ظل الإستعصاء الدولي، وامتناع السعودية على تمرير عبارة تأييد واحدة له عبر بيان رسمي خرج عن لقاء قمة ثلاثية في إيطاليا. الحريري فهم الرسالة، والحدثان أعلاه يعطيان إشارة عميقة إلى أن إمكانية الحل في لبنان منعدمة، ومن يتحدث عن حكومة في وقتٍ قريب، يحلم!
ثمة من يحيل إعادة تنشيط “حالة الإعتذار” إلى اجتماع “ماتيرا”، الفرنسي ـ الأميركي ـ السعودي الثلاثي. طوال مدة اللقاء، لم يفلح وزيرا خارجية فرنسا جان إيف لو دريان والولايات المتحدة أنطوني بلينكن من “زحزحة” تصلّب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، أو إقناعه إدراج عبارة تأييد حول تأليف الحكومة في لبنان برئاسة سعد الحريري. أظهر هذا الواقع حقيقة ما يدور ويتردّد في الداخل اللبناني منذ مدة حول رفض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إعطاء ولو فرصة للحريري، ووصول قرار الرفض إلى مكان أصبح لا بد فيه من إصدار القرار النهائي (إقصاء الحريري). ما زاد الطين بلّة، أن وسائل الإعلام السعودية تجاهلت الإجتماع من أصله ولم تتناوله، ولو من باب التلميح. وتجنّباً لمزيد من إغضاب بن سلمان وهي العبارة ـ المخرج – التي ما برح الزعيم “الإشتراكي” وليد جنبلاط يردّدها، وعملاً بمقتضيات المرحلة، قرر الحريري الابتعاد وركن جنبلاط إلى الإفتراق عن بيت الوسط، تماماً كما ركن الفرنسيون والأميركيون الآن إلى خلاصة مفادها: “حكومة انتخابات من خارج وجود الحريري”.
إذاً ما كان يخشى رئيس تيار “المستقبل” ظهوره عبر الإعلام، حصل فإذاً لما البقاء في “بيت الحكومة” ما دام الطلاق الخلعي قد وقع؟
عملياً، بلغت الحماوة السياسية ذروتها. الحريري لا يرمي الأسباب في ما وصل إليه على الخارج فقط، إنما للداخل دور. وعملاً بهذه القاعدة، فإن نقطة تحوّل التصعيد الآتي ستُحدَّد عقب إعلان الحريري لاعتذاره رسمياً. ومن المرجّح أن يحصل ذلك عبر مقابلة تلفزيونية تتحضّر قناة “الجديد” لاستضافتها قريباً. على الأرجح، أن اعتذار الحريري، وفي حال حدث كما هو متوقّع، سيكون بمثابة إعلان صريح عن الدخول رسمياً حقبة “المعارك الإنتخابية” الطاحنة تحت سقف الإنهيار، وربما أكبر من ذلك، ما دام أن صقور “المستقبل” قد وضعوا معادلة: رأس الحريري مقابل رأس ميشال عون!
هذا يحيل إلى تدشين معركة مبكرة في رئاسة الجمهورية. ما يخشاه الجميع أن تبدأ معركة “إزاحة” ميشال عون أو اعتباره رئيساً “غير شرعي” إمتداداً لمفاعيل “منع الرئيس السُني من التأليف”، وهذا قد يعيد مرحلة مواجهة إميل لحود، لكن بشكل مختلف ما دام أن للجميع شوارعهم، ويهدّدون بها.
ما يشغل الآن فريق عمل الحريري + حلفائه المقرّبين أمثال عين التينة، وإلى حدٍ ما “حزب الله” الحائز على صفة شريك، يأتي من مقام البحث عن الطريقة المثالية لـ”تخريج” اعتذار الحريري إلى العلن. “الثنائي الشيعي” يعتبر أن موقفه من المسألة واحد غير قابل للتجزئة، لذا يجهد الحزب، وعلى كافة الخطوط في التخفيف من أثمان التصعيد. نائب رئيس تيّار “المستقبل” مصطفى علّوش تحدّث عن “درس لمرحلة ما بعد الإعتذار”، وهذه يتضمن أكثر من بند مطروح على جدول الأعمال: الموعد النهائي لإعلان الإعتذار، “خليفة” الحريري في السراي (يجدر هنا أن تأتي التزكية من جانب بيت الوسط)، مهمة الحكومة المقبلة، وطبيعة المرحلة، ومنها المواجهة مع العهد ودور تيّار “المستقبل” فيها. يبقى الثابت في كل ذلك أن ما طبع مرحلة التأليف زمن الحريري لا بدّ أن يشمل مرحلة التأليف ما بعد الحريري، أي أن الخلافات سيما حول التمثيل المسيحي ستبقى على ما هي عليه، بصرف النظر عن الشاغل المقبل للموقع.
عملياً، بدأ الرئيس الحريري تهيئة المسرح لاعتذاره قبل مدّة. في الخارج، الزيارات للدول الراعية للدور السياسي السُني تتكلم عن نفسها، وفي البعد الداخلي، فإعداده لليوم التالي للإعتذار يكشف عنه الشارع، وليس صعباً ملاحظة مدى اتساع الحركة الشعبية في الحقل الميداني السنّي. ويبرز هنا تطوّر حضر ضمن السياق، فبينما انبرى رئيس الجمهورية ميشال عون لتغطية غياب حكومة تصريف الأعمال وأسر تأليف الحكومة الجديدة باتجاه تفعيل المجلس الأعلى للدفاع، حضر عنصران في سياق الأحداث. الأول عودة رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب عن قرار “تقنين” المشاركات في اجتماعات تُتهم بأنها “تمد اليد” على الدور السنّي في السلطة، والثانية “تحرّك” الشارع السُنّي بعد ساعات قليلة على الإجتماع، من خلال انفجار الوضع في طرابلس على نحوٍ يدفع للشك، سيما بعدما أظهرت تقارير إعلامية مشاركة رجالات محسوبين على نواب “زرق” في عملية إقفال الطرقات واستغلال جوع المواطنين للإستثمار في أهداف سياسية. عليه، جاءت “حركة طرابلس” المفتعلة على ظهر الجوع وكأنها رسالة سياسية بالبريد السريع، وتحت عنوان رفض توسّع عون بإدارة البلاد عبر “مجلس عسكري مصغّر” كاستعاضة عن تأليف يُتّهم بتطييره!
وفي الداخل أيضاً، من المحال إغفال “شروط” الحريري المسبقة للإعتذار. لقد سبق وأن وضع رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصورة قراره ونصّبه قائماً عليه، لذا من المحال أن يركن إلى خطوة من دون تنسيقها. وفي المرحلة الأخيرة وحين عزم وتوكل وأُحبط من قبل برّي، ألزمه الأخير مناقشة الإعتذار، والقاعدة هنا أن عين التينة لا تسلّف الخدمات بالمجّان. وهنا، تتولد قناعة بأن “عين التينة” تريد “توزيع الخسائر” من وراء الإعتذار، ولا يجدر أن يظهر مقرّ الرئاسة الثانية الذي آزر الحريري طوال مشواره، وحيداً في موقع العاجز.