تحت شعار “النقابة تنتفض”، خاضت قوى التغيير المدنيّة انتخابات نقابة المهندسين، فسطّرت “انتصارًا” يمكن أن يُحسَب له ألف حساب، في الاستحقاقات الانتخابيّة الوطنيّة المقبلة، إذا ما عرف المعنيّون “توظيفه” في المكان الصحيح، كما يمكن أن “يضيع سُدى” إذا ما تكرّرت “الخطايا” نفسها التي ارتُكِبت سابقًا، وأهدرت الكثير من مكاسب “الثورة”.
لم تكن نتائج انتخابات نقابة المهندسين مفاجئة لكثيرين، بل ثمّة من يؤكد أنّ قوى السلطة نفسها كانت مستعدّة ومتأهّبة لها، وهي لذلك حاولت “تطيير” الاستحقاق أكثر من مرّة، لأنّها تدرك أنّ هذه الانتخابات ستشكّل “الفرصة المثاليّة” لترجمة “الامتعاض الشعبيّ” غير المسبوق من تراكمات “كارثيّة” في أداء السلطة، أوصل البلاد إلى مرحلة “الانهيار” التي تعيشها اليوم، وسط “تهويل” من الآتي “الأعظم” والذي قد لا يكون بعيدًا.
ويرى البعض أنّ هذه النتائج لم تكن مفاجئة، لأنّها ليست المرّة الأولى أصلاً التي تعكس فيها نقابة المهندسين تحديدًا نبضًا “مدنيًا تغييريًا” مخالفًا لذلك الذي يتمخّض عن الانتخابات النيابية مثلاً، فكيف الحريّ في ظلّ الظروف المأساويّة التي يعيشها المواطنون اليوم، وهم أصبحوا “رهائن” سلطة تعجز عن تقديم “تنازلات بسيطة” من أجل تشكيل حكومة، يُنظَر إليها إقليميًا ودوليًا على أنّها “الفرصة الأخيرة” لإنقاذ لبنان.
دلالات “الانتصار”
رغم ما سبق، قد لا يكون “عادلاً” تفريغ “الانتصار” الذي تحقّق من مضمونه، من خلال تصويره وكأنّه أمر بديهيّ وطبيعيّ، والحكم سلفًا على “محدوديّته”، باعتبار أنّ التجربة أثبتت أنّ ما يسري على الانتخابات النقابيّة، كما الجامعيّة قبلها، لا يسري بالضرورة على الانتخابات النيابيّة، وتجربة 2018 لا تزال ماثلة في الأذهان بعدما سبقتها أجواء “تغييريّة”، وإن لم تكن وصلت إلى المستوى الذي أسّست له انتفاضة 17 تشرين بالمعنى الواسع للكلمة.
وقد يكون كافيًا للدلالة على أهمية ما تحقّق، الاستناد إلى أنّ قوى السلطة خاضت “المعركة” بكلّ زخم وقوة وحماس، وحشدت له ما يكفي من طاقة وموارد، وبالتالي فإنّها لم تتعامل معه وفق منطق أنّ “الهزيمة” تحصيل حاصل كما يحاول أنصارها أن يروّجوا اليوم، وهي وإن كانت تتوقّع أن تفرز الانتخابات “تراجعًا” في مكانٍ معيّن، لم تكن تقدّر “اكتساح” المعارضة بها بالشكل الذي حصل.
يعزّز ذلك أهمّية “الانتصار” الذي تحقّق نقابيًا، والذي ينبغي أن يخضع للتحليل لدى قوى وأحزاب السلطة، فرادى وجماعات، لتلقّف الرسائل من خلفه، وبالتالي تعديل السياسات والاستراتيجيّات بناءً عليها، خصوصًا أنّ هذه الانتخابات، وإن أصرّ البعض على المبدأ القائل بأنّها لا تمثّل حقيقة النبض الشعبيّ، أكّدت المؤكّد، لجهة وجود “تململ” شعبيّ واضح من القوى التقليدية، وهو ما بدأ يظهر أصلاً داخل بعض الأحزاب التي تشكو “نزوحًا” لبعض قواعدها وحتى قياداتها.
التحدّي الكبير
لكن، إذا كانت “الرسالة” لقوى السلطة بهذا الوضوح، فإنّ الأكيد أنّ “التحدّي” الذي تضعه النتيجة على عاتق المجتمع المدني أكثر تعقيدًا، لأنّ “رهانه” على هذه النتيجة للاعتقاد بأنّ “انقلابًا سياسيًا” قد تحقّق، وأنّ الانتخابات النيابية المقبلة ستترجم “التغيير” من خلال خريطة سياسيّة جديدة بالكامل قد لا يكون أكثر من “وهم” سيكون صعب التحقّق، في حال الركون إلى “سكرة الانتصار”، إن جاز التعبير.
من هنا، ستكون قوى “الثورة” أمام “الاختبار” مرة أخرى، وإن كانت موازين القوى تميل لصالحها، بعدما بات الكثير من “المتردّدين السابقين” أقرب للتصويت لأيّ “نفَس جديد” على اعتبار أنّ أيّ “بديل” عن السلطة الحاليّة أفضل منها. إلا أنّ هذه “القناعة” لا تكفي، لأنّ المطلوب من هذه القوى “التغييرية” بلورة إطار “تنظيميّ” موحّد لنفسها، اليوم قبل الغد، تخوض الانتخابات المقبلة على أساسه، وبموجب “خريطة طريق” واضحة.
ولعلّ ما على قوى “الثورة” فعله أولاً هو الاستفادة من التجارب السابقة، بدءاً من انتخابات 2018، التي فشلت فيها استراتيجية “التنوّع” بعدما تشتّت المجتمع المدني على لوائح متنافسة، ما قدّم هدية “مجانية” للسلطة، وصولاً إلى انتفاضة 2019، التي ضاعت، أو هُمّشت، بفعل الأزمات الاجتماعية المتفاقمة ربما، لكن قبل ذلك بسبب “الصراع” على “القيادة”، وعلى وقع نظرية رفض أن يكون “للثورة أيّ قائد”، وهي نظريّة لا تنفع على المدى الطويل.
ثمّة “انتصار” تحقّق، لا شكّ في ذلك، ولا يجوز التقليل من وقعه، أو “تحجيمه” كما يحلو لبعض أنصار قوى السلطة أن يفعل. لكنّ الواقعيّة تقتضي أن تدرك قوى المجتمع المدني أنّ هذا “الانتصار” ليس سوى خطوة في مسارٍ طويل، يفترض أن يبدأ اليوم، ويكرّس نضالاً تبدو كلّ مقوّماته وشروطه أكثر من حاضرة في الميدان، ليتوّج في الانتخابات النيابية المقبلة، بمعركة نضاليّة موحّدة وصارخة في وجه الطبقة السياسيّة التقليديّة!
لبنان 24