تسعى المصارف إلى خفض حجم الكتلة النقدية الموجودة في السوق عن طريق بحث الشركات عن الليرة وامتصاصها، لايداعها في المصارف وتغطية رواتب الموظفين. الليرة هي المستهدفة، فامتصاصها من السوق يعني زيادة الطلب عليها مقابل العرض، فيرتفع سعرها مقابل الدولار.
الذريعة التي ترفعها المصارف غير علمية، فلا علاقة لحجم الكتلة النقدية بسعر الصرف في الحالة الراهنة. واللبنانيون يبتعدون قدر الإمكان عن الليرة، حتى لو اضطرّهم الأمر إلى تحويل ما يوفّرونه من ليرة إلى دولار، وإن ترتّب عن ذلك خسارة معيّنة، فالتعويض ممكن مع ارتفاع سعر صرف الدولار، وهو مسار متواصل.
أما لجم سعر صرف الدولار، فيحتاج إلى صدمة إيجابية تبدأ بتشكيل الحكومة، ووضع برنامج إصلاحي يتضمّن توحيد أسعار الصرف في الداخل والاتفاق مع الخارج على إعادة جدولة دفع سندات اليوروبوند، التي كان لعدم الالتزام بمواعيد دفعها أثر سلبي على سعر الصرف بعد تراجع التدفقات والاستثمارات بالعملات الأجنبية، خوفًا من تداعيات تعثّر الدفع.
الخوف ولَّدَ أزمة ثقة انعكست على معدّل الهروب من الليرة واكتناز الدولار في المنازل بعيدًا من المصارف. فتحويلات المغتربين تُقَدَّر بنحو 6 مليارات دولار سنويًا، لا تجد طريقها نحو المصارف، وبالتالي تفقد المصارف جزءًا غير بسيط من سيولتها. كما أن تصاعد جوانب الأزمة، وتحديدًا ما يخصّ المحروقات وأسعار السلع التي تفوق معدّلاتها مستوى سعر صرف الدولار في السوق السوداء بما لا يقل عن 1000 ليرة. فإذا كان سعر الصرف 15 ألف ليرة، تُوضَع الأسعار على أساس 16 و17 ألف ليرة، وأحيانًا أكثر. ما يؤكّد أن لجم الكتلة النقدية لا علاقة له بتحديد سعر الصرف. وإن كان كذلك، لا يكون عبر قرارات فجائية من المصارف.
ردّة فعل
ما تقوم به المصارف يندرج في إطار رد الفعل التي تُوَجَّه ضد الطرف الأضعف، أي العملاء. وفي خلفيات القرار، فأن المصارف تريد خفض سقف السحوبات لتوفير سيولتها، ويعود القرار إلى تأثير قرار مصرف لبنان المتّخذ في وقت سابق، والذي يخفّض سقف سحوبات المصارف من حساباتها لديه. يومها أعلنت قلّة من المصارف عزمها خفض سقف سحوبات عملائها، لكن لم تجد غطاءً من مصرف لبنان يبرر قرارها، فقبلت بتحمّل كلفة الإبقاء على السقف كما هو. لكن مع زيادة الضغط على سيولتها، رفضت المصارف كسر ودائعها في مصرف لبنان للحصول على السيولة. فالمركزي يتقاضى رسومًا على كسر الودائع، ما يعني أكلافًا إضافية على المصارف. فكان الرد بإلزام المؤسسات تأمين السيولة لدفع رواتب موظفيها.
المستشفيات أوّل المتضررين
قد تقوى بعض المؤسسات على توفير السيولة لدفع الرواتب، إما طازجة عبر المصارف، أو الدفع مباشرة للموظفين داخل المؤسسات، بعد اتخاذ الإجراءات الادارية المناسبة. لكن المستشفيات لا تستطيع تأمين السيولة اللازمة، حسبما يؤكّد نقيب أصحاب المستشفيات سليمان هارون، في حديث لـ”المدن”.
فالمستشفيات تتقاضى أغلب أموالها “عبر التحويلات والشيكات من المؤسسات والجهات التي تتعامل معها”، ومنها المؤسسات الضامنة. وبذلك تتقلّص الكتلة النقدية التي تحصّلها المستشفيات لقاء خدماتها، “وما يُحَصَّل من أموال نقدية يتم دفعه للمستوردين لتأمين المستلزمات الطبية. فهؤلاء يطلبون مستحقاتهم نقدًا”.
عدم اكتراث المصارف بأوضاع المؤسسات العميلة لديها، دفع المستشفيات لاتخاذ قرار المعاملة بالمثل: “فأي مصرف يمتنع عن دفع رواتب موظفي المستشفيات من حساباتها، تفرض المستشفيات على موظفي المصرف الممتنع، الدفع نقدًا عند دخولها”. ويشير هارون إلى أن “المستشفيات ستنتظر ما ستؤل إليه الأمور خلال الأسبوع المقبل”.
ستتّضح معالم قرار المصارف مطلع الأسبوع المقبل. على أن صداه انطلق، إذ سترتفع أصوات الموظفين مطالبين مؤسساتهم بدفع رواتبهم مباشرة داخل المؤسسة. وعلى مستوى المصارف، من المتوقّع أن تتراجع عن قرارها وتستبدله بخفض سقف السحوبات، لما له من أثر على خفض معدّل الطلب على السيولة. ومع خفض السقف، يقع الموظفون في مستنقع تأمين السيولة اللازمة للاستهلاك. فالحصول على كامل الراتب لا يكفي لتغطية حجم الاستهلاك، فكيف بالأمر مع نصف راتب أو بعضًا منه؟.