إنّ التحرير الكامل لسعر صرف الليرة مقابل الدولار سيسهم في تحقيق التوازن الداخلي والخارجي، من خلال رفع القدرة التنافسية للإنتاج المحلي وزيادة الطلب عليه وكبح الطلب على السلع والخدمات المستوردة. فقد بدأت بوادر هذا الاتجاه في الاقتصاد حالياً، فانخفضت معظم المستوردات (باستثناء السلع المدعومة، وبدأت تتعافى بعض القطاعات التي اكتسبت قدرة تنافسية على إثر انخفاض سعر الصرف في السوق الموازي، على الرغم من التردّد في اخذ اية اصلاحات. ومن المهم الأخذ في الاعتبار، انّ تحرير سعر الصرف سينهي الدعم غير المباشر لنسبة كبيرة من السلع المستوردة واهمها المحروقات، التي تستحوذ على 5 مليارات دولار من الدعم سنوياً، لتسعيرها على أساس السعر الرسمي البالغ 1500 ليرة للدولار مقابل 15000 ليرة في السوق الموازي الحر. كما انّ تعدّد أسعار الصرف مع القيود المرفقة على السحب أدّيا الى فقدان الثقة في الأسواق المالية، وفي خلق تفاوت بين الدولار النقدي والدولار المصرفي، حيث أصبحت قيمة الأخير نحو ربع الدولار النقدي. كما انّ القرار الذي خَوّل دفع الديون والعقود بسعر الصرف الرسمي، خلق فجوة كبيرة بين الاستحقاقات والالتزامات، وشوّه الأسواق المالية وادّى الى استمرار تسجيل خسارات مصطنعة في المصارف. فلا بدّ من الالتزام بالاستحقاقات المالية حسب سعر الصرف المحرّر، وتبرير مراجعة العقود.
للدعم المباشر وغير المباشر من خلال تعدّد سعر صرف الليرة آفات عدّة ومن أهمها التالي:
يؤدي هذا الدعم الى: تردّي الوضع المالي، تهويد القطاع المصرفي، وضع قيود غير مبرّرة وغير شرعية على الودائع وعلى التدفقات المالية وهدر ودائع المواطن، انخفاض في النمو وارتفاع في البطالة ونزوح للطاقات البشرية، تردٍ في وضع ميزان المدفوعات مع خسارة الاحتياطات لمصرف لبنان وتدهور سعر الصرف، تحفيز تهريب السلع المدعومة الى الخارج، منح ارباح استثنائية للتجار والمهرّبين، دعم الفئة الغنية على حساب الفئة الفقيرة ويُفقر الفئتين معاً، نقص في السلع المدعومة لتهريبها وتخزينها، خلق سوق سوداء لها، تثبيط القطاعات الإنتاجية عن انتاج السلع البديلة للواردات المدعومة، ويخلق تشوهات في توزيع موارد الاقتصاد. كما يساهم في تقويض الثقة بالدولة في معظم مرافقها وقدرتها على ممارسة الحوكمة الصالحة، وفي الوقت نفسه يعطي سلطة غير دستورية للسلطة. وقد ينتج من كل ما تقدّم إذلال للمواطن وعوارض اجتماعية سلبية عديدة نتيجة البطالة وازدياد الفقر.
أما التوازن المالي، فهو من الضروريات في هذه المرحلة، وسيسهم في تحقيقه التحسن التلقائي للإيرادات الاسمية (وخصوصاً الجمارك وضرائب الدخل، وايرادات القيمة المضافة) على إثر تطبيق سعر صرف حرّ وموحّد على جميع المعاملات. اذ انّ قيمة القواعد الضريبية الأساسية، كالدخل والواردات والاستهلاك ستُضاعف. فيما النفقات تتبع القرار السياسي المالي، باستثناء تكلفة خدمة الدين بالعملة الاجنبية (بعد انهاء توقف خدمته) ودعم شركة كهرباء لبنان بالوقود المستورد، وكليهما يُعالجان من خلال اعادة جدولة الدين وإنهاء الدعم السخي للكهرباء. وتحتل النفقات على الأجور والرواتب المرتبة الاولى في الإنفاق الجاري، ولا بدّ من إعادة النظر في تكلفتها، مع اعتبار القدرة الشرائية للموظف وتوخّي الحذر في الإسراف في تعديلها. وتليه خدمة الدين العام المحلي، وتتأثر تكلفته بتقلّبات أسعار الفائدة والتي يتوقع ان تنخفض وتستقر، بفعل استهداف تحقيق التوازن المالي واعادة الجدولة للدين.
وأجرينا محاكاة بالاستناد الى سعر الصرف الحرّ السائد حالياً في السوق الموازي. وأثبت انّ التوصل الى توازن مالي من الممكن بعد تحرير سعر الصرف خلال فترة وجيزة. إنّ تحقيق توازن كامل في المالية العامة سيعود على الاقتصاد بفوائد عدة، مع توقف الدولة عن منافسة القطاع الخاص في التمويل، وسيؤثر ايجاباً في تشجيع الاستثمار الخاص في جميع القطاعات، ويساهم في استقرار سعر الصرف نفسه. انّ معظم الدول التي عانت من أزمات مالية كان سببها الرئيسي العجوزات المالية المرتفعة وسياسات الصرف الخاطئة للعملة، وكان خفض العجز المالي من اهم الإصلاحات المتبعة.
وفي شق جدولة الدين العام، فهي حاجة ماسة لإعطاء الوقت اللازم لتعافي الاقتصاد ومالية الدولة. ومن الممكن معالجته بالعملات الأجنبية والمحلية مع القطاع الخاص المحلي (المصارف، مؤسسات القطاع العام، الشركات الخاصة، والافراد) من خلال الاتفاق على برنامج إعادة جدولة، بما فيها خدمة الدين. وسيسهم تحقيق التوازن المالي في خفض الفوائد ودعم الحل. وفي هذا الصدد، من المفضّل إجراء اختزال كلي لدين الدولة بالليرة لدى مصرف لبنان، او اعتباره ديناً استثنائياً دون اجل محدّد، وجزءاً من الأصول الأخرى. من الممكن اعادة جدولة الدين الخارجي مع المؤسسات المالية الدولية الخاصة (والذي لا يتعدّى استحقاقها 10 % من مجمل الدين العام)، من خلال طلب تشكيل لجنة موحّدة من قِبلهم للتفاوض مع الحكومة.
اضافة الى ذلك، لا بدّ من اعادة جدولة أصول وخصوم المصارف للقطاع الخاص، بمبادرة من جمعية المصارف، حسب صيغة تستند إلى الاستحقاقات التي كانت سارية حين بدء الأزمة. ومن المتوقع ان تجد المصارف الحلول المناسبة لحل أزمة القروض المتعثرة. إنّ التأكيد على صيانة الودائع سيعطي الثقة للمودعين ويسهم في التحول الى استعمال المعاملات الرقمية (بطاقات إئتمان وتحويلات الكترونية) والصكوك، بدلاً من المعاملات النقدية، مما يساهم في حلّ ازمة السيولة. انّ التَخوّف من الاستيلاء على الودائع، والذي طُرح جدّياً في الخطة السابقة، زعزع الثقة بالمصارف وأسهم في الإقبال على سحب الودائع منها.
والجدير ذكره، انّ القطاعات المحلية والخارجية تنتظر ان تبدأ الحكومة بإعادة جدولة ديونها وتقديم خطة تستند الى المصالح المشتركة، بدلاً من التوقف الغوغائي عن الدفع.
النتائج:
إنّ هذه الإجراءات الثلاثة كفيلة بأن توجّه الاقتصاد نحو التعافي لتحقيق نمو اقتصادي وتوازن في المعاملات مع الخارج. وهي أولويات قبل الانهماك في تفاصيل الإصلاحات الهيكلية، كالضمان الاجتماعي ومؤسسات القطاع العام، مع العلم أنّه لا بدّ من معالجة الكهرباء حالاً للجم الخسارات فيها، واهميتها للاقتصاد ودورها في تحقيق التوازن المالي.
يجب ان يرتكز الجهد أولاً على انعاش الاقتصاد وليس على ادارة الخسارات (ومنها خسارات وهمية) كما اتُبّع في الخطة السابقة. وتستهدف أولاً الاصلاحات ذات الأثر المباشر والآني، ومن أهمها تحرير سعر الصرف وتوحيده لجميع المعاملات. وسيُخوّل هذا الاجراء، تعديل الاجور في القطاع الخاص تلقائياً، استجابة الى قوى سوق العمل ومرونته. فكلما ارتفع الفارق بين أسعار المبيع وأسعار التكلفة فلا بدّ للأجور من ان تتعدل.
ومن المتوقع بعد اخذ هذه الإجراءات الثلاثة، ان يستقر سعر الصرف على مستوى من التنافسية الداعمة للاستقرار الاقتصادي، وتحقيق معدلات نمو ايجابية مع انخفاض في البطالة. فمن الأفضل للسياسات ان تخلق فرص عمل تنتج سلعاً، بدلاً من ان توفّر سلعاً بأسعار بخسة مصطنعة وغير قادرة على الاستمرارية. اما انتظار المؤسسات المالية الدولية لكي تقدّم حلاً فسيعمّق الأزمة المالية.