في خضم الانهيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية نتيجة وطأة الازمات المتلاحقة التي لحقت بمعظم المؤسسات والقطاعات العامة والخاصة، يبحث المعنيون عن أطر جديدة من شأنها أن ترسم هيكلية جديدة للدولة لمعالجة الاختلالات والتناقضات والاجتهادات التي يصدح بها بعض الفرقاء عند كل استحقاق او محطة سياسية.
وعلى أهمية الطروحات المتصلة باحترام الدستور وضروة تطبيقه بعيدا عن تفسيرات من هنا واجتهادات من هناك واحترام الصلاحيات المنصوص عنها، فإن اللبنانيين في الوقت الراهن، وأمام الذل الذي يلاحقهم على ابواب المستشفيات والصيدليات وفي داخل السوبر ماركت وامام محطات المحروقات والمصير المجهول لودائعهم ، لا يتطلعون الا الى تأليف حكومة تعيد عقارب الساعة الى ما قبل 17 تشرين وبعدها لكل حادث حديث، خاصة وان مشهد الشارع اليوم ينذر بالأسوأ على كل المستويات المتصلة بإلغاء الدعم والارتفاع الجنوني للاسعار.
لقد أصبح السؤال حول مَن يتحمل مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع في لبنان أكثر من مستهلك، فكل فريق يحاول أن يبرئ نفسه من تهمة التعطيل ويلصقها بالآخر، عطفا عن أن الاستجداء والاستنجاد بالخارج باتا عنوان المرحلة التي تنتظر أن تأتي كلمة السر للقوى الأساسية لتنتهي معها “معارك الحمام الزاجل” التي لا تبقي ولا تذر.
أعاد رئيس الجمهورية اليوم التأكيد على أهمية ان تستند المرجعيات والجهات – التي تتطوع مشكورة- للمساعدة في تأليف الحكومة الى الدستور والتقيد بأحكامه وعدم التوسع في تفسيره، خاصة وأن الزخم المصطنع الذي يفتعله البعض في مقاربة ملف تشكيل الحكومة لا افق له إذا لم يسلك الممر الوحيد المنصوص عنه في المادة 53 من الدستور، وبالتالي فإن الآلية الواجب اتباعها لتشكيل الحكومة تختصر بضرورة الاتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف المعنيين حصرياً بعملية التأليف وإصدار المراسيم.
إن ما يصدر من مواقف وتدخلات، بحسب بعبدا، يعيق عملية التأليف ولا يخدم مصلحة اللبنانيين ولا يحقق حاجاتهم الملحة التي لا حلول جدية لها إلا من خلال حكومة انقاذية جديدة.
يبدو رئيس الجمهورية اليوم وحيداً. يخوض معركة البقاء والمحافظة على موقع رئاسة الجمهورية متحصنا بالدستور وما تبقى من صلاحيات للرئاسة الاولى، لكن المفارقة، بالنسبة الى اوساط سياسية بارزة، “ان حزب الله (الحليف الاساس للرئيس عون) يكاد يتخلى على الاخير لاعتبارات مذهبية وطائفية وقفت سدا منيعا امام بناء الدولة وتكاد تطيح باتفاق مار مخايل، علما أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمحايد الذي لا ينصر الباطل من المؤكد أنه يخذل الحق”، تقول الاوساط نفسها.
شن الرئيس عون في بيان رئاسة الجمهورية اليوم، هجوما لاذعا على مرجعيات سياسية ودينية تتدخل في عملية التأليف بعيدا عن الاصول الدستورية لا بل تتجاوزها عمدا لتضفي على مسار التأليف واقعا طائفيا لا يمكن ان يأتلف مع القواعد الدستورية والوطنية، وهذا يعني، وفق الاوساط نفسها،” أن ما يحاول البعض ايحاءه عن زخم التأييد الكبير للرئيس المكلف سعد الحريري من الحلفاء والاصدقاء المقربين منه (في اشارة الى رئيس المجلس النيابي نبيه بري) ومن بعض الدول الاوروبية والغربية يكاد يكون في غير مكانه وهذا ما يعلمه الاقربون قبل الابعدين، فهناك زخم ما دون سواه ينتظره الحريري لم يصل بعد، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية. فالشيخ سعد يهتم بأمور كثيرة الا الحكومة على طريقة مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة لكن المطلوب واحد تأليف حكومة مهمة انقاذية بعيدا عن حسابات الداخل والخارج” .
قد يكون بيان الرئاسة الاولى رسالة انذار جديدة قبل أن يقدم الرئيس عون على خطوات جديدة لن يبوح بها الا عندما تحين الساعة، وربما يعطي فرصة لاتصالات الساعات القليلة المقبلة ليبني على الشيء مقتضاه، فالمواجهة بين المعنيين على خط الصراع قد تصل الى مراحل متقدمة في الايام المقبلة اذا لم يحسن حزب الله ادارة الحوار بين حليفه العوني من جهة، والرئيس بري والرئيس الحريري من جهة اخرى، خاصة وان التيار الوطني الحر لا يخفي امتعاضه من عين التينة التي كان لها برأيه”اليد الطولى في افشال العهد وتعطيل البلد”،علما ان حركة امل، ووفق مصادرها، تعتبر “أن البيانات التي تصدر بين الفينة والاخرى عن رئاسة الجمهورية هي بيانات ممجوجة لا تغني فقيرا ولا تشبع جائعا، هذا عطفا عن ان بيان اليوم لا يهدف الى إنهاء مبادرة بري فحسب انما القضاء على البلد، فالقصد منه تعطيل كل المبادرات ونعي تأليف اي حكومة لا تحظى بموافقة الصهر الذي يبدو انه قطع الطريق على تأليف حكومة خلال ال 48 ساعة المقبلة”.
اما حزب الله فيرى، وفق المقربين منه، “ان البيان شكل نعيا لمبادرة الرئيس بري وسوف يجنح بالبلد الى اصطفافات جديدة في حين ان الواقع الراهن لا يحتمل أي تصعيد بين المكونات الاساسية، خاصة وان مشهد الاسابيع المقبلة سيكون سوداويا ومرعبا، فالامور قد تخرج عن السيطرة ولبنان بات يواجه خطر السقوط في مرتبة الدول الفاشلة بفعل الانهيارات التي لحقت في قطاعاته وخسارة اللبنانيين لمدخراتهم، وبالتالي فإن البلد احوج ما يكون الى خطاب وطني وتجاوز لعبة تصفية الحسابات والرهانات والذهاب الى تأليف حكومة في اسرع وقت بالاتفاق بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية”.
الاكيد أن هذا المشهد يعيدنا سنوات الى الوراء عندما كان الرئيس عون رئيسا للحكومة الانتقالية عام ١٩٨٨واعلن عن قرارات كثيرة ،وفي ذلك الحين قام مناصروه باعداد اغنية تكريما له يقول مطلعها.. “وحدو وقف يلمع بايدو السيف وبعيونو الغضب.. هيك انكتب بيخلق مجد لبنان”.