في المبدأ، قرّر رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري “ترك الإنهيار لأهله” ـ وفق مضبطة الإتهام الزرقاء الموزّعة بحق “التيّار” ـ على أن يغدو اعتذاره أمراً واقعاً حين تصدر الأوامر بوضع لبنان تحت فصل “الدواليب”، وحينها فقط تكون مراسم الإعتذار قد أُنجزت بالفعل، ومُرّرت تحت غطاء كثيف من الدخان المنبعث من الشوارع إلى المنابر!
في الطريق إلى ذلك، على الحريري اعتماد “صيغة مناورات مدروسة” منذ الآن وحتى حلول موعد إعلان الإعتذار، وعلى الأعمّ الأغلب بدأ يعوّمها سياسياً وعلى أكثر من صعيد (لقاء بعض خصومه السُنّة من نواب 8 آذار، لقاء الهيئات البيروتية، زيارة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، إجتماع رؤساء الحكومات السابقين) على أن يدشّن نهاية المسار بصبغة نيابية: إجتماع كتلة “المستقبل” الثلاثاء وزيارة عين التينة بناءاً على ما يترتّب خلال ذلك من نتائج. الهدف من كل هذا المسار بطبيعة الحال، هو نقل مسؤولية الإعتذار من ضفته إلى خانة العهد، وتكبيده المسؤولية المترتبة عن ذلك وتبرئة نفسه على ما افتعل بحق الشعب اللبناني طيلة 9 أشهر من عمر التكليفين.
حتى الآن، يمكن تصنيف موقف عين التينة ووضعه في خانة المراقب. رئيس مجلس النواب نبيه برّي، لا يرى فائدةً بالإعتذار، تماماً كما أنه، وفي قرارة نفسه، لا يرى فائدة بتأليف حكومة في ظل هذا الجفاء الحاصل وحالة العداء المتنامية على مستوى العلاقة والتنسيق بين الرئاسات. لكن في العادة، فإن بري “ميّال” صوب أهوَن الشرور. “إذا كان لا بد من حكومة فلتكن برئاسة الحريري”، خلاصة موقف بري الذي يبدو رافضاً، إلى الآن، أن يتولى أحد بخلاف الحريري كرسي بيت الوسط. هذا الكلام يؤشّر إلى أن لا حكومة في الأفق!
لرئيس مجلس النواب اعتباراته. هو يرى الحريري شريكاً ومسؤولاً عن الحالة الراهنة، تماماً كما يراه “حزب الله”، لذا فممنوع على الحريري مغادرة منطقة المسؤولية، وعليه، يقع واجب المساهمة في “الإنقاذ المنشود” كغيره من المسؤولين. لكن الحريري يلعبها “صولد”. بات راسخاً لديه أن المظلّة السعودية التي يسعى إليها مفقودة، والغطاء الفرنسي لم يعد في المتناول، والرغبة المصرية ـ الإماراتية لم تعد كما في السابق، وسط مؤشرات تدل إلى ميل أبو ظبي صوب ذهاب الحريري للإهتمام بشؤون رعيته خلال المرحلة الفاصلة عن الإنتخابات، والأجواء الداخلية لا توحي بأن ثمة دينامية تنفع في قيادة “ورشة”، لذا، يجد أن الحل راهناً في الخروج من الحلبة، فمنه يحافظ على ما يعتقد أنها مكتسبات حقّقها إبان مواجهته للعهد، وتصلح أن تُستخدم في حثّ الناخبين على الإقتراع، ومنه يعتقد أن مجالات الإنقاذ “مقفلة” في ظل حكومة مقبلة على مهمة أساسية: إدارة إنتخابات. في ظل ذلك، لن يجنح الحريري صوب التفريط بالمكتسبات التي حقّقها بنظره، ولن يُقبل على الإعتذار من خارج التنسيق سواء مع برّي أو “حزب الله” (عبر الخليلين)، متحاشياً تكرار خطأ تشرين الثاني 2019.
وعلى مستوى “الخليلين”، ليس مرجّحاً عودتهما إلى الإجتماع سواء بالبياضة أو بيت الوسط تحت عنوان “دفع تأليف الحكومة”. الإجتماع الذي كان من المفترض حصوله خلال عطلة نهاية الأسبوع المنصرم، طار إلى أجل غير مسمّى من دون التفاهم على موعد آخر. كلّ من النائب علي حسن خليل والحاج حسين خليل والحاج وفيق صفا، باتوا في الصورة السوداوية للمشهد. أكثر ما يمكن إنجازه حالياً، هو التخفيف من حدة الإرتطام المقبل تحت عنوان “الإعتذار”، وخلق أجواء مؤاتية عبر تهيئة ظروف سياسية للخطوة الحريرية تخفيفاً للإرتدادات. إضافة أخرى، هم باتوا أمام احتمال كبير لتحوّل مشهد اشتباك بيت الوسط ـ البياضة على صورة اشتباك “من دون هوادة” بين عين التينة والبياضة، بشهادة ملاحظة علامات انكسار في الرئاسة الثانية، يُحمّل مسؤوليتها جبران باسيل “المتّهم بإسقاط المبادرات”، إلى جانب نشوء نتوء من عدم التوازن والفراق بين حسن خليل وجبران باسيل، نما على قارعة اجتماع البياضة الأول، وتجسّد في الإجتماع الثاني، ليتمّ تثبيته لاحقاً من خلال عاملين: تسريبة الثنائي الشيعي ذات البصمات الخليلية، وتغريدة حسن خليل “التأديبية” بحق باسيل.
إذاً كل الأجواء لا توحي بإيجابيات إطلاقاً، وتصرّفات الحريري الأخيرة تدفع إلى الظن أنه دخل في لعبة المواجهة الطائفية عبر شحذ همم الأنصار والخصوم في الطائفة على السواء تحت عنوان واحد: حماية موقع الرئاسة الثالثة. وعليه، بات خطابه وتوجّهاته تصلح لإدارة معركة إنتخابية لا تأليف حكومة والخوض في مجال الإنقاذ المنشود.
على ضفة عين التينة، يتريّث بري في الإعلان عن انقضاء أجل مبادرته. هو يخشى أن يأتي ذلك مصحوباً باعتذار الحريري، إلى مقدمة للدخول في معركة أشد فتكاً من التي سلفت، بمعنى أن الإعتذار لن ينقلنا إلى مسار يُريح البلد، بل سيعمّق الفجوة، ومن يُراهن على “تكليف ثم تأليف سريعين” لخلافة الحريري سيصطدم بواقع أن حكومة حسان دياب باقية وتتمدّد إلى حدود الإنتخابات، وهو ما يمثل عقدة العقد بالنسبة إلى بري، الذي بات في صورة الإقتناع بأنه أخرج حسان دياب من الباب وها هو يعود من الشبّاك!
بدوره، سيحوّل الحريري نتائج أي اعتذار يُفترض أن يصبح على الطاولة أقلّه خلال الأسبوع الجاري، إلى نتائج في وارد استخدامها ضد العهد. وبخلاف من يدّعي أن الإعتذار سيخفّض من منسوب الإحتقان، ثمة من يرى أن الإعتذار سيرفع من الصعوبات، ويزيد من أسباب المواجهة ويقوّي مفاعيلها، ولا يعني إطلاقاً أن الأمر قد انتهى بخروج الحريري الذي سيدخل عملياً سنة الإنتخابات، وما يستبطن ذلك من أدوات استخدام “غير لطيفة”.
وعلى هذه الضفة، هناك من يعتقد أن الإعتذار غدا أمراً واقعاً لا مفرّ منه، وقد وُضع في الجيب، حتى يتمكن برّي من إنجاز ما عليه من ترتيبات لبلوغ الأمر، لذا، بات التسابق يتم عملياً بين الحريري وبري. فالأول ينتظر الثاني لإعلان وفاة مبادرته لكي يؤمّم اعتذاره، ويجعل من انقضاء أجل المبادرة سبباً حتمياً لذلك، فيما برّي يبدو أنه ليس في وارد تحمّل المسؤولية لوحده، ويفضّل أن يتم الإعتذار بالتنسيق بينه وبين الحريري، رغم أنه يتخوّف من تكرار تجربة، 2019 على الرغم من رسائل التهدئة التي يبعث بها الحريري إلى عين التينة دورياً.