لم يعد الوضع في بلدنا يحتمل الكلام السياسي الدبلوماسي، ففي أزمنة الأزمات الحادة تفرض الحقيقة نفسها كما هي من دون أي كلام منمّق أو مدوّر، وبما أننا اليوم في لبنان نعيش ما نعيشه، لا بد لنا من القول جهاراً أن بلدنا تحكمه طغمة حاكمة تنقسم ما بين الحقد والجشع. حاقد على يساره جَشِعٌ ومن على يمينه فاسد يمتهن الكذب والرياق، وكأنهم خرجوا سوية من قصيدة “هوامش على دفتر الهزيمة” لنزار قباني.
“في وقت الخداع العالمي يصبح قول الحقيقة عملا ثوريا” بحسب جورج أورويل، كما أن الكذب يستطيع مع مارك توين “أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها”، وفي ضوء كل هذه الحقائق الدامغة عن أن حقد الحاقدين وجشع الفاسدين للسلطة والمال أساس كل ما نعانيه اليوم كشعب، يزداد الوضع على المستوى المالي والإقتصادي والإجتماعي والمعيشي سوءاً ساعة بعد ساعة، والوضع الحكومي في جمود ما بعده جمود، فما يكاد يتقدّم الإعتذار حتى يتراجع، وفي المقابل، ما يكاد يتم حلحلة العقد المفترضة حتى تعود إلى تعقيد أكثر فأكثر، لتبقى الأمور على ما هي عليه. وإن قلت هلمّوا إلى الإنتخابات النيابية المبكرة لإحداث التغيير الحقيقي وإبعاد الطغمة المتحكمة برقابنا اليوم عن السلطة، يأتيك من يردّ من هنا متهماً إياك بالإمبريالية والعمالة، وآخر يدّعي من هناك أنها مؤامرة كونية، وكل هذا لماذا؟ لأن الحقيقة واحدة وهي أنه مهما طال الزمان، وجار الجائرون، وفسد الفاسدون وطغى الطغاة في نهاية المطاف اللبنانيون هم وحدهم المنتصرون.
وبالإنتقال إلى المشهد السياسي، فقد قالت أوساط سياسية متابعة في مجرى توصيفها لواقع الحال، أن وضع “حزب الله” اليوم هو كالآتي: فالحزب يريد أولاً أن تتشكّل الحكومة ليس لأنه مع منطق الدولة، وإنما لأن الفراغ انعكس سلباً على الوضعية الاجتماعية داخل البيئة الشيعيّة التي لم يعد يتحمّل ضغوطها عليه، وهو غير قادر، وخلافاً للصورة المقدّمة عنه، على معالجة متطلبات هذه البيئة، وإنما قدرته لا تتعدى الجزء البسيط منها، أي محازبيه. وفي المناسبة، هناك العديد من المشاكل التي تحصل يومياً داخل البيئة الشيعية ويتم التعتيم إعلامياً عليها، الأمر الذي حوّل مسألة تشكيل الحكومة إلى أولوية لدى “حزب الله” من أجل تنفيس هذا الإحتقان الذي تشهده بيئته التي تحمّله ضمناً مسؤولية الفراغ الحاصل في البلاد.
ولفتت الأوساط إلى أن “حزب الله”، بحاجة إلى تأليف الحكومة سياسياً لأنه يخشى أنه في حال لم تؤلف، ستذهب الأمور باتجاه الإنفراط الكبير، وبالتالي، ستنعكس الصورة سلباً على وضعيته، كما أن استمرار الفراغ الحكومي من شأنه أن يؤدي إلى انهيار “الستاتيكو” السياسي القائم، ودخول لبنان إلى الفوضى التي يعتبرها “حزب الله” المدخل لاستهدافه من قبل الأميركيين.
ولكن في المقابل، ماذا يمكن للحزب أن يفعل من أجل الدفع باتجاه تأليف الحكومة؟ تقول الأوساط، إن “حزب الله” وعلى مستوى العلاقة مع الرئيس المكلّف سعد الحريري، لا يريد الإصطدام بالأخير كي لا يقال إن الشيعة أصبحوا في مواجهة السنّة، وبالتالي، كي لا يضع الحالة السنيّة في لبنان في مواجهة الحالة الشيعية، ولذا يتجنّب اتخاذ موقف حاسم في مسألة التأليف ويبقى ممسكاً العصاة منا لوسط ما بين رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل والرئيس المكلّف.
وشدّدت الأوساط، على أن أكثر ما يفرح “حزب الله” اليوم هو أن الصدام في البلاد يأخذ طابعاً مارونياً ـ سنياً، وبالتالي، يطرب إلى الإشتباك الحاصل ما بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومن خلفه باسيل والرئيس الحريري. فضلاً عن أنه لا يريد أن يشق الصفّ الشيعي، باعتبار أنه يدرك تماماً أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يدعم الرئيس الحريري، وبالتالي، هو لا يريد أن يكون في موقع الداعم بشكل مطلق لعون وباسيل، لأنه لا يريد حتى المخاطرة في مسألة إمكان شقّ الصف الشيعي، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة للغاية.
ومن جهة أخرى، اعتبرت الأوساط أن “حزب الله” بحاجة لباسيل ولفريق العهد، باعتبار أن هذا الفريق يؤمن له الغطاء المسيحي الضروري في هذه المرحلة، ورئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر”، وعلى الرغم من تراجعه الشعبي، يبقى الأكثر تمثيلاً على الصعيد النيابي حالياً من بين حلفاء الحزب المسيحيين، وهذا يؤمن له غطاءً كبيراً لسلاحه ودوره، الأمر الذي لا يعطي الحزب، رفاهية الإختيار في إمكان تخلّيه عن هذا الغطاء.
وبناءً على كل ما تقدّم، ترى الأوساط، أنها المرّة الأولى ومنذ زمن بعيد، التي يجد فيها الحزب نفسه، في وضعية المشلول سياسياً وغير القادر على القيام بأي خطوة في أي اتجاه، فلا هو قادر على الضغط على الحريري للأسباب الآنفة الذكر، ولا هو قادر على الضغط على باسيل للأسباب المذكورة، إضافة إلى أن الحالة العونية في البلاد اليوم تعيش شبه هستيريا على مستوى القيادة والأفراد،جراء التراجع الكبير الذي مُنيت به في أعقاب ثورة 17 تشرين الأمر الذي يجعلها غير عاقلة الأطوار وقابلة للقيام بردود فعل غير محسوبة، وهي قد بدأت أساساً بتوجيه الرسائل للحزب المشلول يميناً ويساراً بسبب تموضعه الوسطي، الأمر الذي يضع الريبة في قلب “حزب الله” من ردود فعل هذه الحالة، التي هي أشبه بالثور المذبوح، في حال أقدم على الذهاب أبعد من ذلك.
وتؤكد الأوساط، أن هذه هي المرّة الأولى، ومنذ زمن بعيد التي يظهر فيها “حزب الله” على حقيقة حجمه وقوّته، من دون غشاء فائض القوّة الذي كان يحاول التلطي خلفه، حيث كان من مهمّة البعض أن يعملوا على إظهار صورة غير واقعيّة عنه عبر تضخيم دوره السياسي وقوّته العسكرية، إلى أن أتت الأحداث الراهنة لتؤكد بما لا يقبل الشك أن سلاحه في الداخل لا يعدو كونه “خرضة” ولا فعالية له في المشهد السياسي العام، وجلّ ما يقوم به هو ترهيب وترغيب البيئة المحيطة بالسلاح، وهذا ليس بقليل، وإنما ليس بالحجم الذي كان يُسوّق.