كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
منذ أن أعلن حاكم مصرف لبنان في بداية كانون الأول 2020 أن الدعم “لن يستمر لأكثر من شهرين” بدأت لعبة “قط” المستوردين و”فأر” المواطنين. وبدلاً من أن تلجأ السلطة إلى خطة واضحة المعالم للحد من الفوضى، زكّت اللعبة بـ “اللاقرار” وغياب الرقابة، وترك الأمور معلقة باستنسابية “المركزي”. ومع تشدد الأخير بفتح الإعتمادات في ظل الإبقاء على الدعم، تحولت اللعبة إلى “هستيريا” جماعية تهدّد بـ”إشعال” البلد بمحروقات “المحطات”.
المشهد أمام المحطات عصر أول من أمس كان غير مسبوق. طوابير السيارات أمامها ضربت بثلاث وأربع مرات، بعد إعلان ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا أن “المحطات ستقفل أبوابها خلال أيام بسبب نفاد المحروقات”. وبحسب المعلومات فان مصرف لبنان لم يعط حتى صباح البارحة اي موافقة مسبقة للشركات المستوردة للنفط تسمح لها بتفريغ البواخر التي وصلت الى المياه اللبنانية. ليبقى السؤال إن كانت ستفتح الإعتمادات، وستفتح، فماذا ينفع التأخير. وإن كانت لن تفتح هذه المرة بشكل قاطع، فلماذا لم تبدأ مرحلة الترشيد ويعلن عن رفع الدعم صراحة. وليملأ ساعتذاك خزان سيارته من يقدر، وليركنها في وسط الطريق من لا يستطع ويتوقف عن الذهاب إلى العمل. فيتعطل الإقتصاد، وتتزايد الأعباء ويصاب البلد بالشلل التام. عندها قد تتحمل الدولة مسؤوليتها بايجاد الحلول والمخارج المنطقية.
“اللعبة” النفسية
“ما يجري هو إعطاؤنا نموذجاً عن انقطاع الخدمات والسلع الأساسية بهدف التخفيف من رد الفعل عند رفع الدعم”، يقول نائب رئيس الحكومة السابق الوزير د. غسان حاصباني. “فبعد معاناة المواطنين وتعرضهم للإذلال مقابل الحصول على الحاجات الأساسية والضرورية، سواء كان على المحطات أو أمام الصيدليات والأفران والمحلات وغيرها، يصبح تقبلهم لرفع الدعم وارتفاع الأسعار أسهل”. هذه السياسة البسيكولوجية الخطيرة التي “تتسلى” فيها السلطة، يقابلها “غياب أي خطة جدية، متكاملة واضحة المعالم لتأمين البديل”، برأي حاصباني. و”كل الحلول المقترحة تبقى “ترقيعية”، ما لم يصَر إلى تأمين الإستقرار السياسي، وإعادة تكوين السلطة من خلال انتخابات نزيهة، والبدء بالإصلاحات واستعادة الثقة. وهذا ما يبدو أنه لن يحصل قريباً مع الأسف. وستستمر السلطة بشراء الوقت بأموال ما تبقى من احتياطيات وموجودات لتقطيع المراحل بدعم مقنع مركب وموقت”.
حتى آخر “سنت”
الإستراتيجية التي ستعتمد لتأمين البنزين والمازوت والدواء ستكون مشابهة تماماً لسلفة الكهرباء. حيث لن يدفع حاكم مصرف لبنان دولاراً واحداً إلا على شفا الإختناق وبعد حصوله على موافقة السلطة السياسية. وبذلك يحمي نفسه معنوياً من عبء إهدار أموال المودعين تحت عذر الأمر الواقع، ويمنّن المواطنين من حساباتهم. و”الخوف ألّا تقف هذه العملية عند حدود ما تبقى من توظيفات إلزامية، بل أن تتعداها في ظل هذا الفراغ والفشل السياسي المستحكم إلى احتياطي الذهب في المرحلة المقبلة”، يقول المسؤول عن الملف الإقتصادي في الحزب التقدمي الإشتراكي محمد بصبوص. خصوصاً أن احتياطي العملات الصعبة لامس الخط الأحمر وبدأت اليد تمتد الى التوظيفات الإلزامية المقدرة بـ 14 مليار دولار بعد تخفيضها نقطة واحدة من 15 إلى 14 في المئة. ومن هذه التوظيفات الممنوع المس بها قانوناً سيستمر المركزي بتمويل العمليات التالية:
– تسديد نصف ما يحق للمودعين سحباً من حساباتهم بناء على التعميم 158.
– دعم سعر صرف الدولار على سعر 12 ألف ليرة عبر منصة صيرفة.
– دعم القمح والمحروقات وفيول مؤسسة كهرباء لبنان، ولو بشق الأنفاس وبعد “طلوع الروح”.
– تسديد الحسابات الإئتمانية Fiduciary accounts للمصارف الخارجية التي تطالب بها.
– تسديد الوديعة اليمنية التي تفوق 250 مليون دولار بالتقسيط.
وبحسب بصبوص “علق حبل” استنزاف ما تبقى من ودائع على “جرار” غياب الحل السياسي وعدم الإتفاق على الإصلاحات. حتى أنه من الملاحظ انعدام الإرادة لإقرار البطاقة التمويلية التي تشكل بديلاً عن الدعم المقنن وحلاً لوقف إذلال المواطنين للحصول على الخدمات وحماية أموال المودعين. خصوصا إذا كان تمويلها خارجياً وعبر قروض ومساعدات من البنك الدولي”. وهذا الأمر يتطلب من وجهة نظر بصبوص “التواصل مع الجهات الدولية وتحديداً البنك الدولي الذي ابدى استعداده لتمويل هذه البطاقة عبر تحويل وجهة مجموعة من القروض غير المستعملة إلى غرض توفير الحماية الإجتماعية”.
إما الإبقاء على الدعم وإما رفعه
في الوقت الذي يعول فيه الإقتصاد بمختلف قطاعاته السياحية والخدماتية على مجيء السياح والمغتربين الذين يحملون النقد الصعب، تؤدي أزمات الكهرباء والمحروقات إلى إلغاء الحجوزات. الأمر الذي دفع بعضو نقابة أصحاب المحطات جورج البركس إلى اعتبار ما يجري “جريمة بحق البلد”. فمن صرف برأيه عشرات مليارات الدولارات من أموال المودعين، “يستطيع ان يصرف بضعة ملايين لانقاذ فصل الصيف الذي سيعيد اليه اضعاف ما سيصرفه من الدولارات”. مناشداً الحكومة ومصرف لبنان أن “يعلنا بوضوح عن سياستهما في هذا القطاع ومصارحتنا ومصارحة الشعب اللبناني بحقيقة ما يريدان فعله. فان كانا يريدان رفع الدعم، فهذه خريطة طريق لرفعه خلال 4 اشهر:
– يخفض الدعم تدريجياً بنسبة 22 في المئة شهرياً وعلى فترة أربعة أشهر.
– يقر المجلس النيابي قانون البطاقة التمويلية التي يبدأ العمل بها خلال الشهر الثاني من بداية رفع الدعم.
– يؤمن مصرف لبنان فوراً وخلال هذه الفترة الاعتمادات المطلوبة لاستيراد المحروقات التي توقف الطوابير والاذلال وتقنين المولدات.
– تتخذ وزارتا الاقتصاد والطاقة ومنشآت النفط والاجهزة الأمنية كافة الإجراءات المتوجبة لوقف تسليم المحروقات لتجار التهريب المعروفين جيداً.
– تأمين تسليم المحطات على كامل الاراضي اللبنانية مادتي البنزين والمازوت من خلال الشركات المستوردة المتعاقدة معها أو شركات التوزيع.
– يخصص لتمويل هذه الخطة 750 مليون دولار اميركي سيعاد تكوينها بالكامل واكثر من اموال المغتربين والسياح الذين سيمضون العطلة الصيفية في لبنان.
وفي حال كانت الحكومة تصر على ابقاء الدعم كما هو، فلتأخذ كافة الاجراءات لتأمين الدولارات لاستيراد المحروقات ووقف مهزلة إذلال الناس وأصحاب المحطات.
ما يجري اليوم من وقف مفاجئ لاستيراد المحروقات يرقى إلى مستوى الفعل التدميري. وهو يشبه كل سياسات الدولة الضعيفة. فكما تحمل كل المواطنين عبء الضرائب غير المباشرة لعدم قدرتها على تحصيل حقوقها، “تجلد” المواطنين بتقنين البنزين لعجزها عن مكافحة التهريب والتخزين. فهل ينتفض المواطنون أم يقعون ضحية “متلازمة ستوكهولم” Stockholm syndrome ويتعاطفون مع مَن أساء إليهم ويظهرون الولاء لنفس الأشخاص من سياسيين وتجار ممن أوصلوهم إلى هذه الحال؟