أصبح المواطن اللبناني يعيش على “التقنين” ليس فقط في الكهرباء، بل أيضاً بالمحروقات والخبز والسلع وحتى بماله.
انهارت العملة الوطنية، الكهرباء إلى الانقطاع، استنزاف أموال المودعين، تعطيل تشكيل الحكومة، والمؤسف ما زالت الطبقة السياسية تنظر في مكان آخر، عين على أسيادهم في الخارج ، وعين أخرى على حساباتهم المصرفية، وغير آبهة بمصير شعب بأكمله يُعاني
من أسوأ أزمة في تاريخ البلد. فقد صنّف البنك الدولي الأزمة في لبنان من ضمن الأزمات الثلاث الأكثر حدّة المسجّلة في العالم منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى جانب أزمة تشيلي في عام 1926 وأزمة إسبانيا في الحرب الاهلية (عام 1931). يُفهم من تقرير البنك الدولي أن الأزمة الحالية اسوأ مما كانت في الحرب (1975-1990). للتذكير لم يعد نصــيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في لبنان إلى مســتواه في 1974 إلا في 2002. أي أننا احتجنا إلى 28 سنة للعودة إلى ما كان عليه قبل الحرب، من ضمنها 12 سنة من إعادة الإعمار.
فمن جهة، بات هم اللبناني الوحيد تأمين لقمة عيشه في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار وعدم ثبات سعر صرف الدولار . ومن جهة أخرى، يعيش في قلق شديد حول مصير استعادة أمواله من المصارف. علماً أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أكد البدء قريباً بإعادة أموال المودعين من خلال تعميم سيصدره، وأضاف أن مصرف لبنان ليس مفلساً، وأموال اللبنانيين موجودة في المصارف وليس لدى البنك المركزي.
الا أن هذه هذه التدابير ليست طويلة الأمد، علماً أن الأموال المدفوعة هي بالنهاية من أموال المودعين، فسيتم الأخذ من أموال المودعين الكبار وتسكير حسابات المودعين الصغار.
ماذا حصل منذ سنتين وربع؟
-انخفضت الودائع في المصارف نحو 38 مليار دولار، بالاضافة إلى نحو 15 مليار دولار كفوائد مدفوعة للزبائن، أي أن 53 مليار دولار تقريباً تم سحبها من المصارف منذ بداية 2019 حتى آذار 2021.
-اتسع متوسط هامش ربح الفائدة الذي تجنيه المصارف من 3.76% في 2018 إلى 6.62% في آذار 2021 على الدولار، ومن 2.01% إلى 6.06% على الليرة. وتستخدم هذه الأرباح في إطفاء الخسائر وتكوين المؤونات والتهرّب من إعلان الإفلاس.
-لا تزال الحكومة ومصرف لبنان يسددان كل الفوائد على توظيفات المصارف بالليرة، ولا تزال الحكومة تحتسب الفوائد على اليوروبوندز ولكنها علّقت تسديدها، أمّا مصرف لبنان فهو يسدد الفوائد على توظيفات المصارف بالدولار لديه، نصفها بالدولار ونصفها بالليرة.
-لم تتراجع تحويلات المغتربين إلى لبنان (7 مليارات دولار في 2020)، ولم يكن الاقتصاد بحاجة لأكثر من 3 مليارات دولار في 2020 لتسكير عجز حسابه الجاري (أي صافي المعاملات الاقتصادية بين المقيمين وغير المقيمين).
-على الرغم من ذلك، تراجعت موجودات العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان نحو 17.5 مليار دولار في سنتين وربع. وسجّل ميزان المدفوعات عجزاً بقيمة 17.2 مليار دولار، وكان مصرف لبنان المموّل شبه الوحيد لهذا العجز، بما في ذلك 7 مليارات دولار جرى الإقرار بتحويلها إلى الخارج عبر المصارف.
-ارتفع متوسط أسعار الاستهلاك بنسبة 150%، وانخفض الاستيراد من 19 مليار دولار إلى 11 مليار دولار، وانكمش الناتج المحلي الاجمالي من 55 مليار دولار إلى أقل من 20 مليار دولار، وتهاوى متوسط نصيب الفرد من هذا الناتج من 8 آلاف دولار إلى أقل من 3 آلاف دولار…
فإذا لم يتم العمل على إجراء إصلاحات بنيوية اقتصادية ومالية ونقدية، بالتوازي مع المساعدات الاجتماعية بسبب مشاكل الفقر والبطالة، فلن يقوم لبنان.
وسط التناحر المتمادي في الملف الحكومي والانحدار في مستوى التخاطب بين الأطراف السياسية، باتَ أكيداً أن مختلف الجهات الدولية فقدت ثقتها بالنظام اللبناني ككل، وذلك لفشلهِ في التعاطي مع الانهيار الاقتصادي القائم. وعملياً، فإنّ التأسيس لنظام جديد قد يكون ورقة مطروحة وجدية بالنسبة لدول القرار حول العالم، خصوصاً أنّ ما تعكسه التطورات في لبنان يشيرُ بشكل أكيد إلى أنّ الأوضاع ذاهبة إلى الانفجار طالما لا حلول فعلية.
وفي ظلّ هذا المشهد القاتم، تتجه الأنظار في الداخل والخارج إلى مؤسسة الجيش، التي تعتبرُ الركن الأخير المتبقي في هذه الدولة المتهالكة. وبشكل أساسي، فإن مجمل الدول وفي طليعتها الولايات المتحدة وفرنسا قد أيقنتا أنّ تمكين هذه المؤسسة يعتبرُ الدرع الأخير الذي يحمي لبنان من الإنزلاق نحو أتون الحرب.
تنشيطٌ لعمل “المخابرات”
ولا تنفي مصادر سياسية ودبلوماسية المخاوف من أحداث أمنية قد تقود إلى انفجار حتمي، لا سيما أنّ الظروف الحالية لا تضمن ارتياحاً في الشارع. ولهذا، تحذر مختلف الجهات من أن “أي تساهلٍ في الأمن قد يؤدي إلى ضربةٍ كبرى وسط انعدام الأمان الاقتصادي والاجتماعي”. وهنا، جاء القرار الدول بدعم الجيش بشكل مُطلق ليكون الباب الأول لضمانة عدم حدوث أي فلتان داخلي بشكل أساسي.
وبحسب المعطيات، فإن “هناك سلسلة من المعلومات عن وجود خلايا إرهابية نائمة تنتظرُ ساعة الصفر للتحرّك، والعمليات الاستباقية وكشف خيوطها تحبط مخططاتها”. كذلك، كشفت المصادر “أن هناك مخاوف أيضاً لدى المرافق الدولية في لبنان من تعرّضها لأي هجمات، الأمر الذي دفعها لتعزيز أمنها بشكل أكبر وتشديد التحصينات العسكرية”.
ومع هذا، تقول مصادر أمنية لـ”لبنان24″ أنّ “هناك استنفاراً ضمنياً على صعيد مختلف الأجهزة الأمنية خصوصاً في المناطق التي تعتبرُ ساخنة والتي يمكن أن تكون مفتوحة على مختلف الاحتمالات. ولذلك، فإن عمل أجهزة المخابرات اللبنانية المختلفة بات مكثفاً بشكل كبير، حتى أن أي حادثة أمنية فردية تتم متابعتها من خلال ترصّد المتورطين وإخضاعهم للتحقيق، مثل حوادث إطلاق النار. فما يحصل هو أن أجهزة المخابرات تتخوف من السلاح المتفلت وتخشى أن يتم استغلاله في أي عمل أمني نتيجة لتدهور الأوضاع”.
وفعلياً، فإن كل هذه المعطيات وأكثر وصلت إلى دوائر القرار في الدول الخارجية المهتمة بلبنان، ولهذا أعطت الضوء الأخضر لدعم الجيش، وكان هناك تأكيدٌ على ضرورة تحصين المؤسسة العسكرية مادياً أيضاً في ظل تدهور قيمة رواتب العسكريين بسبب انهيار الليرة. وإلى جانب هذا الأمر، تدرك الدول أن الجيش يمتلك الخبرة الكافية لضمان الأمن الداخلي بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الأخرى، كما أن لديه القدرات القتالية المناسبة للتدخل والحد من أي فلتان.
وتعوّل مجمل الدول على ثقتها بالجيش في التحرك وضرب أي مكمن خلل قد يزعزع الثقة بلبنان أكثر، وأبرز التحركات على هذا الصعيد هو في تنفيذ الجيش لعمليات دهم واسعة استهدفت معامل تصنيع المخدرات في مختلف المناطق. وهنا، فإن هذه الخطوات تساهم في تعزيز صورة لبنان أمنياً وسط الانهيار السياسي والاقتصادي.
وما يُريح الدول الأخرى هو أن هناك التفافاً وطنياً حول الجيش في لبنان، وبشكل أو بآخر قد تكون هناك تلميحات لإعطاء الجيش دوراً أكبر للجيش بعيداً عن نظرية الانقلاب. ففرنسا وأميركا تثقان بالجيش في ظل انعدام الثقة بالأحزاب، وهناك ثناء كبير على إدارته للمنح الدولية خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت. ولذلك، فإن الدول لن ترى في غير الجيش أي مؤسسة منظمة يمكنها ضبط الوضع في هذه المرحلة تمهيداً لمرحلة جديدة تعالج فيها الاوضاع السياسية والاقتصادية وتكون منطلقاً هاماً لتكريس الثقة من جديد في لبنان.